قال البيت الخليجي للدراسات والنشر أن العلاقات السعودية الإيرانية تعتمد على شكل العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية و ايران, فإذا كانت العلاقة بين الأخيرتين تتسم بالتوافق فهذا ينعكس على علاقة السعودية بإيران وهو ما يعني أن السعودية ترسم سياساتها وعلاقاتها الخارجية بالدول على ضوء الموقف الأمريكي وهو ما يفسر حالة العداء السعودية غير المبررة مع ايران.
البيت الخليج في الدراسة التي أعدها حسن الأحمد قال أنه بعد أشهر قليلة على الإتفاق النووي الذي عقدته إيران مع دول مجموعة الخمسة زائدا واحدا في تموز/ يوليو 2015، أبدت السعودية رغبةً في تليين النزاع مع إيران. وفي تشرين الأول الأول/ أكتوبر 2015 كانت الأمور لا تزال في بدايتها عندما أطلق عادل الجبير، وزير الخارجية السعودية آنذاك، سلسلة تصريحات اعتبرت بمثابة الدعوة للإيرانيين لإجراء مفاوضات تتسم بطابع التصالح بين البلدين.
وأضاف: لم تتأخر إيران في الردّ، واقترحت عبر وزير خارجيتها الذي كان جديداً يومها، محمد جواد ظريف، إجراء مفاوضات مباشرة مع السعودية. وبالتالي، رفضت جميع الوساطات المقترحة، إن كانت عربية أو إقليمية أو دولية، رغم رغبة التيار الذي يمثله ظريف في ابداء نسبة أعلى من الانفتاح على الغرب في ذلك الوقت. كان واضحاً أن الإيرانيين على اختلاف تياراتهم السياسية، ليسوا في وارد التراجع عن فكرة أساسية تضبط تباينات النظرة إلى العلاقات الدولية فيما بينهم: الاعتراف بإيران كقوة إقليمية في المنطقة.
الموقف الأميركي: حدود الاستابلشمنت وحدود الرئيس
بعد الاتفاق النووي، اتبع الإيرانيون سياسة واقعية لتأكيد توازن القوى داخل حدودهم القومية وجعلوا من الرغبة في تحديدها في الخارج أولوية. وبالعودة إلى كتابات رئيسية في العلاقات الدولية، سيتضح أن تحديد ميزان القوى هو عامل أساسي لفهم درجة الاستقرار والتغيير في الدولة القومية. من دون تعقيدات كثيرة، في تلك المرحلة، نجح الإيرانيون في عزل خلافاتهم لمصلحة الأمن القومي الإيراني، خاصةً وأن النمو في القوة ليس سوى نمو ينبع من سياسات القوة، والصراع عليها. لذلك؛ كان موقفهم حاسماً: إذا أراد السعوديون التفاوض فعليهم أن يدخلوا في مفاوضات مباشرة مع إيران. وهذا ما رفضه السعوديون.
تتابعت التوترات بين البلدين باتساع رقعة النزاع في المنطقة. التحول الجيوسياسي الأول حدث عند وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة، حيث بادر إلى الغاء الاتفاق النووي، ما ترك انطباعاً عند القادة السعوديين بتراجع الحاجة إلى التفاوض مع إيران، وافتراض حدوث رغبة معاكسة تحت الضغوط الأميركية وسياسة ترامب المعادية لإيران. في البداية كان الخلاف في ظاهره خلافاً على الشروط بين الوساطة والمفاوضات المباشرة، لكنه خلاف استراتيجي وتاريخي كبير.
وكما في السعودية، كان هناك تيار في إيران، شعر بعد الاتفاق النووي، أن ثمة إمكانية لتوثيق العلاقة مع أميركا على حساب السعودية، وحسب التعبير الذي يستخدمه بعض الصحافيين الغربيين “تحلّ إيران مكان السعودية في علاقاتها الوثيقة بأميركا”. ومن المعروف أن الرئيس حسن روحاني لطالما كان من أنصار عقد صفقة كبيرة مع الولايات المتحدة منذ كان أميناً عاماً للمجلس الأعلى للأمن القومي بين 1989 و2005. لكن في الوقت ذاته، هناك تيار كبير يرفض هذه الفكرة من أساسها، وما زال يرفضها، من دون إقامة وزن جدي لأي اختلافات بين أوباما، ترامب، وبايدن. وبين التيارين توجد تيارات كثيرة، ولا سيما النخبة الأكاديمية التي تحاول عقلنة النظرة إلى الغرب، على أن يكون تحسن العلاقة مع السعودية من نتائج هذه العقلنة.
ليس وجود دوائر لاتخاذ القرار، تتجاوز قدرة الرئيس على اتخاذها لوحده، مسألة إيرانية وحسب. فالرئيس الأميركي باراك أوباما نفسه عبّر عن امتعاضه من النظرة التي وجدها سائدة حوله، لجهة التعامل الدائم مع السعودية بوصفها حليفاً دائماً. وهناك من يحيل هذه النظرة إلى “الاستابلشمنت” وإلى هيمنة الحسابات الاقتصادية على نظرية الهيمنة الأميركية نفسها، من ضمن عدة عوامل أخرى تحتاج إلى تفصيل.
على الأرجح، ورغم توجيه بايدن إشارات إيجابية لإيران تمثلت باللين تجاه الحوثيين، وبالإفراج عن بعض الحسابات الإيرانية بمليارات الدولارات، فإن ذلك لا يعني أن الرئيس الجديد سيستبدل التحالف مع السعودية بالتحالف مع إيران. وما يطغى على سلوكه من لهفة واضحة لمحو الأثر الشعبوي الهائل لتركة دونالد ترامب، لا يعني بالضرورة إمكانية التخلي عن السعودية، بل ينطلق من فهم مشابه لفهم ترامب للدور السعودي، ومفاده أنه يمكن الضغط على السعوديين دائماً في قضايا إعلامية، مثل حقوق الإنسان وغيره، من دون أن يؤدي ذلك إلى قطيعة معها، ومع حلف التطبيع مع إسرائيل الذي تقوده.
ومثال على ذلك، عقيدة أوباما نفسها. فرغم الضجيج الذي أحدثه الجانب العربي من “عقيدة أوباما”، والمتمثل بموقفه السلبي في آخر أيام ولايته من القادة السعوديين، فإن أوباما نفسه لم يعترف بأن انحياز بلاده الدائم للسعودية في المنقطة ترك آثاراً سلبية على إيران وعلى المنطقة عموماً، فقد حافظت الولايات المتحدة على سياستها الخارجية المعتادة، لجهة ضمان أمن السعودية والمضي قدماً في محاصرة إيران. ويعتبر التيار الأكثر تشدداً في إيران أن بايدن سيذهب في هذا الاتجاه أيضاً، أما الفريق المتفائل، فليس بغافل هو الآخر عن صفقات السلاح التي أنجزت في عهد أوباما، وبلغت كلفتها مليارات الدولارات، كما أن أوباما لم يتدخل في اليمن أو في البحرين، رغم الانتهاكات الكبيرة لحقوق الانسان هناك، بل طغت الاعتبارات الجيوسياسية المتمثلة بالحلف التاريخي مع السعودية على قرارته دائماً، ويتوقع أن ينسحب الأمر نفسه على بايدن، ويمكن الاستدلال إلى ذلك بمسارعة إعلان الولايات المتحدة الأميركية التزامها أمن حلفائها، على أن يكون أي انفجار مشروطاً بموافقتها وضمن الحدود التي تضعها.
مستقبل النزاع أم مستقبل العلاقات؟
رغم أهمية وصول رئيس أميركي جديد، وأهمية تناقضه مع ترامب، لقراءة المشهد الإيراني – السعودي، فإن ذلك لا يعني حدوث تغيرات جوهرية في العلاقة بين البلدين. لم يكن وجود ترامب بحد ذاته سبباً للتوتر بين إيران والسعودية. التوتر في العلاقات سببه النزاعات الممتدة في المنطقة، حيث توجد فراغات كبيرة في الأنظمة اليوم، وتخضع السلطة لحسابات متباينة، في مناطق النزاع، مثل اليمن، لبنان، سوريا، والعراق.
وفيما يصرّ السعوديون على خطابهم بشكله القومي، الذي يطالب إيران بالابتعاد عن المناطق العربية، يتمسك الإيرانيون بخطاب جيوسياسي واضح، مفاده أن تدخل إيران في العالم العربي هو ضرورة استراتيجية لضمان أمنها القومي، ولتنفيذ عدة مصالح أخرى. ويمكن الجزم أن وصول بايدن لن يحدث تغييراً في أي من الرؤيتين، والنقاش سيكون في التفاصيل، وفي حدود الغلبة وفي تأثير الدور الأميركي على العلاقات.
القول بوجود دوائر متعددة لاتخاذ القرارات في إيران، لا يعني تعطيل دور دائرة لحساب أخرى. وتخضع العلاقات الإيرانية مع السعودية لهذه النظرة. لذلك، فإن هوية الرئيس المقبل لإيران، ستكون عاملاً مساعداً لفهم مستقبل هذه العلاقات، ولكنها لن تكون عاملاً نهائياً وحاسماً، كما هي الحال مع التغيّر الذي أعلنه وصول بايدن، أو حتى في حال اضعاف موقف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الطرف الآخر.
وحسب ما تشير إليه المصادر الإيرانية، فإن إيران سترفض دائماً رفضاً مطلقاً مشاركة السعودية وحلفائها في أي مفاوضات لإعادة العمل بالاتفاق النووي. ذلك أن أحد أبرز أسباب قيام هذا الاتفاق في الأساس كانت التفاوض بصورة مباشرة مع الغرب، ما يضع إيران في موقع قوة إقليمية حاضرة وجاهزة. وتالياً فإن أي تراجع عن هذه الصيغة، يفرغ الاتفاق بالنسبة إلى الإيرانيين من معناه، ويفقدهم الوحدة والاجماع أو القبول باحتمالات حدوثه أو عودته.
الاتفاق النووي موجود أصلاً، وما ينتظره الإيرانيون هو إشارات أميركية أكثر جدية في مسألة رفع العقوبات، بينما يبحث الأميركيون عن صيغ ومخارج من شأنها طمأنة المصالح الإسرائيلية، المختزلة بخطاب نتنياهو الذي يبدو امتداداً بطيئاً لصوت ترامب الآفل، بشعبويته التي تحاول تصدير مشاكل الداخل إلى الخارج، أكثر من بحثه عن طمأنة السعودية، التي يبدو حتى الآن أنها لم تستخدم جميع أوراقها في الضغط على الأميركيين بعد، واكتفت بتقديم إشارات اعتبرتها إيجابية هي الأخرى، مثل المسارعة للإفراج عن الناشطة المعتقلة لجين الهذلول.
عقيدة نيكسون Xعقيدة أوباما
هناك من يرى بأن إيران والسعودية، يتشاركان صفة واحدة، وهي أن علاقتهما مع الولايات المتحدة الأميركية هي الضابط والمحدد الأساسي للعلاقة بينهما، وهي البديل عن تصور جديد للعلاقات يبدأ بالتفاهم وقد يصل إلى الشراكة، على غرار ما حدث بين إيران وتركيا. وإن كانت الإشارة واجبة إلى أن أي تفاهم إيراني – سعودي هو تفاهم حساس. لكن في جميع الحالات، تبدو التيارات المحافظة في إيران على قناعة بأن السعودية لن تذهب إلى مفاوضات مباشرة مع إيران، أو إلى أي نمط من شأنه تغيير طبيعة العلاقات بين البلدين. ويمكن الاستفادة من تلميحات مستشار الرئيس السابق أحمدي نجاد في وقت سابق عن الموضوع، عندما قال “عندما تصبح العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران علاقات طبيعية، ستكون العلاقات بين إيران والسعودية كذلك علاقات طبيعية”. حتى أن أحمدي نجاد نفسه، وهو ليس بعيداً عن المرحلة، شكك دائماً في إمكانية نسج علاقة جديدة بين إيران والسعودية بمعزل عن التأثير الأميركي. يمكن الافتراض، إلى حد معقول، أنه عندما يتبنى المحافظون هذه الفكرة، فهم يقصدون غالباً التأثير السلبي للأميركيين وعدم قدرة السعوديين على خوض مفاوضات منفردة. أما عندما يتبناها جزء من التيار الذي صار يحسب اصلاحياً رغم تاريخه المحافظ، مثل روحاني تحديداً، فهو يتبنى غالباً شهية العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية أكثر منها مع السعودية.
كانت عقيدة أوباما تقوم على الصبر والانتظار، وكانت في جوهرها محاولة دائمة للتركيز على الداخل وتقليص القوة الأميركية في الخارج. ورغم أن نظرة أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج مايسن، كولين دويك، إلى استراتيجية أميركا في العلاقات الدولية، تبدو محاولة لإعادة إحياء الشكل الإمبريالي القديم، إلا أنه يقدّم مجموعة تفسيرات دقيقة عن العقيدة الأوبامية، لجهة اهتمامها بالداخل الأميركي وحسب. أما ما يفهمه العالم، أو ما يفهمه دويك نفسه من هذه العقيدة في الخارج، فليس دقيقاً تماماً، ذلك أن أوباما يميل إلى الاستخدام الدقيق للقوة، ولا يميل إلى عدم استخدامها. يتضح هذا في سلوكه تجاه إيران والمنطقة عموماً، لأنه عندما تعلق الأمر بالتدخل في الشرق الأوسط، أصر أوباما دائماً على استخدام استراتيجية التعامل مع كل حالة على حده. والحديث عن العودة إلى عقيدة أوباما، لا يقصد به المعنى الذي يقصده أوباما، بل يقصد به صب الاهتمام الأميركي على الداخل، وتغيير أشكال استخدام القوة في السابق.
يمكن القول إن العقيدة الوحيدة التي أمكنها الجمع بين علاقات إيرانية – سعودية برعاية أميركية كانت عقيدة نيكسون في 1972، وليست عقيدة أوباما، انطلاقاً من قاعدة استعمارية تاريخية، اعتبرت الأمن في الخليج مسألة ضرورية لمصالح المستعمِرين. لم يكن اعتبار إيران والسعودية “ركنين توأمين”، في هذه المعادلة سهلاً، وسرعان ما انهارت لعدة أسباب، قبل أن تتبعها عملية ترسيخ ممنهجة للحلف بين السعودية والولايات المتحدة.
لا يمكن تجاهل التيارات التي تملك نظرة ثابتة للعلاقات التاريخية بين البلدين، تحديداً في إيران. فعندما اندلعت حرب الخليج، على سبيل المثال، وقبل وفاة الإمام الخميني ببضعة أشهر، نادت جماعة “أتباع خط الإمام” بسياسة خارجية أكثر تشدداً مع الرياض. ورغم آثار الحرب الإيرانية – العراقية الهائلة، كانت هناك شخصيات متشددة، ضغطت للوقوف مع العراق، ضدّ الولايات المتحدة والسعودية، مثل محتشمي بور، الذي عزل من منصب وزير الداخلية، وعاد فائزاً في الانتخابات النيابية من ضمن تحالف “مجمع علماء الدين المجاهدين” بين 1988 و1992، بينما كان هناك تيار يدعو للوقوف إلى جانب السعودية ضدّ نظام صدام حسين، ومع حكومة الكويت في المنفى، وبالتالي مع الولايات المتحدة. مثل هذا الاستقطاب لم يعد موجوداً في إيران اليوم، لكن التباين في رؤية التيارات للعلاقة مع السعودية ما زال قائماً، كذلك من ضمن التباين على تحديد العلاقة مع الولايات المتحدة، كما لو أن السعودية ليست بلداً قائماً بذاته، بل كائن بغيره.
برفض السعوديين الذهاب إلى مفاوضات مباشرة مع الإيرانيين، لا يبدو أنهم يفعلون شيئاً لتغيير هذا الواقع، في المقابل ينتظر الإيرانيون تسليماً من السعوديين بأن إيران باتت قوة إقليمية كبيرة في المنطقة، لا يمكن تجاهلها، أو التحدث معها عبر قوى أخرى “أكبر منها”. إن كان ذلك في المناطق العربية التي تشهد نزاعاً واضحاً بين المصالح الإيرانية – السعودية، مثل اليمن، لبنان، والعراق، أو حتى في الحدائق الخلفية لإيران، مثل أفغانستان، حيث يبدو أن الدور السعودي تراجع هناك كثيراً لحساب قوى أخرى – مثل قطر والهند وباكستان – بينما استطاعت إيران تعزيز قوتها وحضورها التاريخي هناك. وتلك قصة أخرى.