يبدو أن الرئيس الأمريكي الجديد “جو بايدن” لديه عزم حقيقي على نقل العلاقات السعودية الأمريكية بعيدا عن النمط الذي أرساه سلفه “دونالد ترامب”.
لكن من غير الواضح كيف ستستجيب السعودية لأجندة “بايدن”، ومع ذلك، فإن فهم التحديات التي تواجه “بايدن” ووزير خارجيته، “أنتوني بلينكين”، يتطلب عرضا موجزا تاريخ اللعلاقة.
وتأسست العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة على يد عملاقين تاريخيين هما الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” والملك “عبد العزيز آل سعود” على متن السفينة “يو إس إس كوينسي”
وذلك في يوم “عيد الحب”، عام 1945، ويبدو الآن أن تلك العلاقة الرومانسية قد انتهت.
ولن يتمكن “بايدن” اليوم من التعرف على المشهد السياسي الذي واجهه الرئيس “روزفلت” عام 1945.
لقد تغيرت العلاقة السعودية الأمريكية بشكل كبير، وأصبحت من نواح كثيرة أسوأ بالنسبة للولايات المتحدة.
وتغيرت الأمور عام 2015 عندما حصل الرئيس “باراك أوباما” على موافقة الرياض على مضض لإبرام الاتفاق النووي الإيراني من خلال الموافقة على منح تفويض مطلق لدعم التدخل العسكري السعودي في اليمن.
وألقى الرئيس “ترامب” بالمبادئ الأمريكية إلى مستوى غير مسبوق من الانحدار عبر التستر على مشاركة ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” في قتل “جمال خاشقجي”.
وتجاهل تقارير أجهزته الاستخباراتية حول هذه العملية. وفي الواقع، تفاخر “ترامب” بأنه “أنقذ” ولي العهد بسبب مليارات الدولارات التي أنفقتها المملكة على شراء الأسلحة الأمريكية.
وتطورت السعودية بمرور الأعوام من حالة الفقر إلى أن أصبحت صانع السوق العالمي في تجارة النفط الخام.
ومع ذلك، خلقت هذه الثروة اقتصادا ريعيا، حيث توفر الهيدروكربونات 90% من الإيرادات الحكومية، وما يقرب من نصف الناتج المحلي الإجمالي الوطني.
تطورات غير مسبوقة
نتيجة لذلك، أدى انخفاض أسعار النفط إلى حدوث عجز في الميزانية للمرة الأولى منذ خمسينيات القرن الماضي.
وفشلت المملكة مرارا وتكرارا في جهودها للتنويع للخروج من فخ النفط. وكانت القوة الناعمة السعودية، التي يغذيها مزيج من الترويج للوهابية والمبالغ الهائلة من الأموال، قد جعلت منها الدولة العربية والإسلامية الأكثر نفوذا.
وشهد الربيع العربي تغيرا جذريا في السياسة الخارجية للمملكة، حيث بدأت في استخدام القوة الصلبة في السعي لتحقيق أهداف أمنها القومي، وإن كان ذلك بنتائج متباينة.
وفي المقام الأول، تولت السعودية زمام المبادرة في دعم الجماعات المتمردة ضد دكتاتورية “الأسد” في سوريا، وكان لذلك عواقب وخيمة في جميع أنحاء بلاد الشام.
بعد ذلك، ومن أجل منع التوغل الإيراني ظاهريا، نظمت الرياض تحالفا من دول مجلس التعاون الخليجي للتدخل في الحرب الأهلية اليمنية.
وأظهر هذا التدخل ضعف أداء القوات المسلحة السعودية، وعرّض المملكة لهجمات جوية انتقامية، وحول أزمة إنسانية قائمة إلى أكبر كارثة إنسانية في العالم.
وتنبع العديد من هذه التغييرات في العلاقات الخارجية السعودية من الانقلاب الجذري في الحكم المحلي السعودي في عهد “محمد بن سلمان”.
ولا يعد “بن سلمان” أول وريث سعودي يمارس سلطات تنفيذية من خلف العرش. وفعل “عبد الله” الشيء نفسه خلال الأعوام الأخيرة من حكم الملك “فهد”.
ومع ذلك، فإن “بن سلمان” هو أول من أجرى تغييرات جذرية على هيكل الحكم في المملكة.
حاكم مستبد
وأنهى ولي العهد فعليا، من خلال الترهيب والعنف، سلطة كبار أعضاء الأسرة الحاكمة، التي اتبعت سياسة جماعية فيما مضى بينما لعب الملك دور رئيس مجلس الإدارة القوي.
وبالرغم أن “بن سلمان” ما يزال يعتمد على تساهل والده وحمايته له في ممارسته للسلطة، فقد حول المملكة فعليا إلى ملكية مطلقة استعدادا لصعوده إلى العرش.
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذه التغييرات تم فرضها من أعلى إلى أسفل، بدلا من قبولها من القاعدة. وحتى أثناء تنفيذ الإصلاحات، استمر “بن سلمان” في سجن الإصلاحيين.
ويدرك “بن سلمان” أن العدد الكبير جدا من الشباب السعودي العاطل يمثل التحدي الأكبر للاستقرار ومستقبل حكم “آل سعود”.
ومع ذلك، فإن فرص نجاح ولي العهد لا تزال غير مؤكدة. ويحد انخفاض أسعار النفط من قدرته على تمويل الإصلاحات الاقتصادية وجذب الاستثمار الأجنبي.
علاوة على ذلك، فإن الاضطرابات المتزايدة في المنطقة، وتزايد القمع الداخلي، والحرب في اليمن، والأضرار التي تسببت بها قضية “خاشقجي”، أضرت بسمعة المملكة ونفوذها وعلاقاتها.
الخيارات والتحديات
وكانت الولايات المتحدة، المنقسمة عادة على أسس سياسية حزبية، أظهرت غضبا موحدا حيال قضية مقتل الصحفي في واشنطن بوست “جمال خاشقجي”.
وخلال حملته الرئاسية، وصف “بايدن” ولي العهد السعودي بالـ “منبوذ”، ووعد بإعادة تقويم العلاقات مع السعودية، وإنهاء دعم أمريكا لتدخلها في اليمن، إذا تم انتخابه.
ومع ذلك، كأول رئيس بعد “جورج بوش” يتمتع بخبرة كبيرة في مجال الأمن القومي، يدرك “بايدن” أن المصالح الأمريكية تتطلب استقرار السعودية.
وإذا فشلت السعودية في تحديث نموذجها الاقتصادي، فسيواجه استقرارها الاقتصادي والسياسي في نهاية المطاف تحديات وجودية.
وبالتأكيد يعرف فريق “بايدن” أيضا أن “بن سلمان” قد أخضع أمراء آل سعود ورجال الدين ولكن لم يسحقهم.
وإذا أخذنا التاريخ دليلا، فسنعرف أنه إذا تعثر “بن سلمان”، فإن الكثير من السكاكين ستتكاثر عليه، مع عواقب لا يمكن التنبؤ بها على النظام الداخلي السعودي.
ويعرف “بن سلمان” أن لديه مشكلة في العلاقات مع الإدارة الأمريكية الجديدة.
وكانت قراراته المفاجئة بإنهاء الحصار المفروض على قطر، والإفراج عن بعض السجناء السياسيين المعروفين في المملكة، واقتراح وقف إطلاق النار في اليمن، أولى المؤشرات على رغبته في إصلاح العلاقات مع واشنطن.
ومع ذلك، لا يبدو أن الإدارة الجديدة تريد العودة إلى الوضع السابق. ويريد “بايدن” استعادة ميزان القوى مع الرياض.
وتلقى “بن سلمان” بالفعل رسالة مفادها أنه لم يعد بإمكانه ربط السياسة الأمريكية بشراء المملكة للأسلحة الأمريكية.
ويعرف “بن سلمان” أنه ليس لديه خيارات أمنية جذابة أخرى. ولا يمكن لموسكو ولا بكين تقديم الضمانات الأمنية التي يحتاجها ضد مجموعة متنوعة من الأعداء
ليس فقط في طهران، وربما ليس لديها مصلحة في ذلك أيضا.
وفي الوقت نفسه، يدرك “بايدن” أن الهيكل السياسي السعودي اليوم أكثر هشاشة مما كان عليه منذ أجيال.
ويبدو مستقبل الهيدروكربونات ضعيفا، الأمر الذي يقوض الميثاق الاجتماعي الذي جعل الحكم المطلق مقبولا لدى الكثير من السعوديين.
ودمر “بن سلمان” بالفعل صيغة الحكم التي أقامها الملك “عبد العزيز”، في محاولة لاستبدالها بنظام ملكي مطلق. وخلال هذه العملية، خلق أعداء داخل بيته الممتد والمؤسسة الدينية الوهابية.
ويواجه “بايدن” معضلة خلقها كل من أسلافه الذين وعدوا مرارا، دون جدوى، بـ “الخروج من الشرق الأوسط”. ولم يعالج أي من أسلافه كيفية القيام بذلك بشكل صحيح دون التسبب في عودة عدم الاستقرار.
وفتح انسحاب “أوباما” من العراق، مهما كانت مبرراته، الباب بالتأكيد أمام الفوضى التي استغلتها حينها كل من إيران وتنظيم “الدولة الإسلامية”.
وأدى رفض “ترامب” الرد على الهجوم الإيراني على “بقيق”، والذي أدى إلى توقف نصف إنتاج أرامكو النفطي لفترة وجيزة، إلى زعزعة أسس الأمن السعودي.
تحجيم بن سلمان
وتلاشى الابتهاج السعودي الأولي بانسحاب “ترامب” من خطة العمل الشاملة المشتركة وحملة “أقصى ضغط” ضد إيران والاستفزازات الأخرى مثل اغتيال “قاسم سليماني”، عندما أدركت الرياض أن ذلك قد يؤدي إلى حرب كارثية غير مخطط لها.
كما أن خطط “بايدن” ونيته المعلنة للانخراط في خطة العمل الشاملة المشتركة تعقد العلاقة مع السعودية.
وليس من المؤكد إلى أين سينتهي الأمر بخطة العمل الشاملة المشتركة، وقد شنت قوى خارجية، لا سيما رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، حملة ضدها.
ومع ذلك، أوضحت الولايات المتحدة للرياض وأبوظبي أنه ليس لهما دور في هذا القرار.
واتخذ “بايدن” خطوات أولى ذكية في تقليص حجم “بن سلمان” دون تهديد سلطته بشكل مباشر.
وصرح المتحدث باسم الرئاسة الأمريكية “جين بساكي” بذلك عندما سئل لماذا لم يتحدث “بايدن” مع “بن سلمان”.
ورد “بساكي” قائلا: “نظير الرئيس هو الملك سلمان”، مضيفا أن “بايدن” والملك سيتحدثان في الوقت “المناسب.. يجب أن نتوقع أن يعقد بن سلمان اجتماعات مع الوزير بلينكين أو نائب الرئيس هاريس، ولكن ليس مع بايدن”.
وأمر “بايدن” بالإفراج عن تقرير استخباراتي كان قد خلص إلى أن مقتل “خاشقجي” في القنصلية السعودية في إسطنبول لم يكن ليحدث دون علم مسبق من ولي العهد وموافقته، إن لم يكن بأوامر صريحة.
ثم تجاهل “بايدن” غضب الحزبين لأنه لم يتخذ أي إجراء ضد “بن سلمان” بشكل مباشر.
تصعيد بايدن
وفي الواقع، نظرا لتعقد الشؤون المالية لـ “بن سلمان” و”آل سعود”، فقد يكون من الصعب استهداف “بن سلمان” دون التسبب في أضرار اقتصادية كبيرة للدولة السعودية واستعداء الشركاء المحتملين في أماكن أخرى من المملكة.
وكذلك لا يريد “بايدن” الإطاحة بـ “بن سلمان” علنا، لأنه قد يخاطر باندلاع معركة داخلية على السلطة في الأسرة الحاكمة.
ومع ذلك، فقد ترك “بايدن” الباب مفتوحا للآخرين لبذل المزيد من الجهد. وعندما يحدث ذلك، قد يجد “بن سلمان” نفسه في دور الطرف الأضعف، سواء أصبح ملكا أم لا.
واتخذ “بايدن” خطوات للضغط على السعودية للتخلي عن تدخلها في اليمن. وأوقف توريد الأسلحة “الهجومية”، خاصة الذخائر جو-أرض الموجهة بدقة.
وخلص منتدى الخليج الدولي في ختام دراسته المطولة إلى أن الإدارة الأمريكية تواجه تحديات هائلة في التعامل مع السعودية.
فهي بحاجة إلى إعادة التوازن الهرمي بين البلدين، وإنهاء الحرب في اليمن، مع ضمان استمرار الاستقرار على المدى الطويل داخل المملكة.
ويتطلب هذا من ولي العهد “بن سلمان” التكيف في العلاقات مع الأمريكيين. ومن خلال ما ظهر من أفعاله حتى الآن، يبدو أن “بن سلمان” قد تلقى رسالة “بايدن” وفهمها.
وربما يمنح هذا “بايدن” مزيدا من المرونة في التعامل مع طهران.