تصدع واضح في العلاقة “السعودية” الأميركية منذ تولي الديمقراطي جو بايدن للرئاسة، تصدع لا يخلو من سياسة الابتزاز الممنهجة المتبعة من قبل واشنطن تجاه الرياض، واستغلال التخوف السلماني على العرش، واستنقاذ ما يمكن انتشاله من قبل ولي العهد محمد بن سلمان الساعي للملمة انتهاكاته وانعكاساتها على الواقع الحقوقي بشكل عام، خاصة وأن الانتهاكات المرتكبة من قبل ولي العهد تتراكم تأثيراتها من دون أي رادع، على الرغم من مطالبة المجتمع الحقوقي والمنظمات بردع ممارساته ومحاسبته على الجرائم التي ترتكب بحق المواطنين في الداخل والخارج.
من قضية اغتيال جمال خاشقجي إلى الدعاوى المرفوعة ضد محمد بن سلمان في عدد من المحاكم الأميركية من قبل إعلاميين ومعارضين هدد حياتهم ولي العهد وانتهك خصوصياتهم ولاحقهم، يفترض أن يكبّل ابن سلمان قضائيا، ويحاوط من القضاء الدولي ليحاسب على حجم الجرائم المرتكبة في البلاد وخارجها. الدعاوى القضائية التي من شأنها تطويق سمعة ولي العهد الذي اتسعت رقعة انتهاكاته وجرائمه حتى بات كل معارض له في عداد المهددين، لم تتمكن من تقييده بعد أو محاسبته وفي كل مرة يفلت من المحاسبة بطرق متعددة وأسليب ملتوية، ليس أقلها تشغيل المال السياسي.
منظمة “الديموقراطية الآن للعالم العربي” (DAWN) وهي منظّمة غير ربحيّة، مقرها الولايات المتحدة، أبلغت ولي العهد محمد بن سلمان بالشكوى المرفوعة ضده أمام محكمة مقاطعة كولومبيا الفيدرالية الأميركية في 20 أكتوبر 2020، وأوضحت في بيان، أن “الشكوى القضائية ضد ابن سلمان ومسؤولين سعوديين آخرين قاموا من خلال التآمر ومع سبق الإصرار، باختطاف وتقييد وتخدير وتعذيب واغتيال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، وأن القتل تسبب في إلحاق أذى وضرر كبير على المدّعين”.
المديرة التنفيذية لمنظمة “DAWN” سارة لي ويتسن، قالت “نحن ملتزمون بمحاسبة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أمام محكمة قضائية عن قتله لمؤسس المنظمة، جمال خاشقجي، ونشعر بالامتنان لموافقة القاضي جون بيتس على مذكرتنا بالتبليغ البديل”، وجاء كلامها تعقيبا على موافقة القاضي بيتس على طلب المدّعين بـ”التبليغ البديل” في 4مارس 2021، ما أتاح تبليغ ابن سلمان بالقضية عن طريق رسائل “واتساب”، وعبر البريد السريع إلى “المديرية العامة للسجون السعودية”، ومن خلال منشور في صحيفة “نيويورك تايمز” النسخة الدولية ومنشور في صحيفة “القدس العربي”، وإخطار لمحامي محمد بن سلمان في قضيتين أخريين مرفوعتين ضده في الولايات المتحدة.
وفيما أشارت الحقوقية ويتسن إلى أنه بينما قد يكون محمد بن سلمان قد فلت من العقوبات التي فرضتها حكومتنا على دوره في جريمة القتل، إلا أنه لن يتمكن من الهرب من الملاحقة القضائية من قبل نظامنا القضائي، غير أن العلاقة السياسية مع ابن سلمان تحكمها من جهة المصالح ومن جهة أخرى الابتزاز، ابتزاز تتحمل عقباته الحكومات المتعاقبة التي لطالما تشهد انقساما حول كيفية توفيق العلاقة مع “السعودية”، وتنقسم الآراء بين موافق ومتقارب مع الرياض وأخرى تنحو باتجاه محاسبتها وقطع العلاقات معها بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان، إلا أن سياسة “أميركا أولا” التي تغلب عليها المصلحة الذاتية تغلب دوما.
منذ تولي جو بايدن الرئاسة، عوّلت الأوساط الحقوقية على النهج المتبع والذي يجب أن يكون مخالفا لنهج سلفه دونالد ترامب، الذي أمّن الحماية العلنية لابن سلمان على مختلف جرائمه في الداخل والخارج وكل تلك الحماية كانت مقابل أموال طائلة استوفاها الرئيس على صيغة صفقات أسلحة وابتزاز متواصل لابن سلمان الذي خاف على عرش الحكم وأمّل الحفاظ على سلطته وسطوته ولم يحرك العالم ساكنا، على مشاهد الجرائم الإنسانية وجرائم الحرب في اليمن. ولكن، لم يختلف كثيرا موقف بايدن عن سلفه وإن أتى منمّقا بعد رحلة من التغييرات في المواقف والتهديدات التي بدت بين مرحلة ما قبل الانتخابات وما بعد الفوز.
في أول مواقف المحاسبة التي وضع أمامها بايدن كانت ملف تقرير الاستخبارات بشأن تورط ولي العهد محمد بن سلمان في اغتيال خاشقجي، ولكن التقرير الذي رفعت عنه السرية جاء على صيغة التخفيف والتبرئة غير المباشرة لولي العهد، وهذا ما لا يروق للجهات الحقوقية المتأكدة كما العديد من أعضاء الكونغرس من تورط وانغماس ولي العهد في الجريمة، التي من شأنها تكبيل ولي العهد ولكن بدلا من ذلك كانت المصالح أهم من شتى عناوين حقوق الإنسان التي تنادي بها الولايات المتحدة، وقد جاءت تصريحات وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكين الذي قال تعقيبا على التقرير الاستخباراتي بشأن خاشقجي، وعدم توجيه الاتهام مباشرة لابن سلمان أن “أميركا تريد “إعادة تقويم” العلاقات “الأميركية السعودية”، على أساس أن العلاقات الثنائية “أكبر من أي شخص منفردا”، وهذا التصريح كان واضحا بأن لا محاسبة مباشرة لولي العهد، الذي يبتغي الحصول على الدعم المتواصل من أجل الحفاظ على خطوات الدعم للوضول إلى سدة الحكم في البلاد، خاصة وأنه يتعامل على أنه الحاكم الفعلي للبلاد.
لا شك أن التبدل في مواقف بايدن ناحية ابن سلمان بين فترته الانتخابية وتسلمه للرئاسة، أظهر فجوة كبرى، من شأنها إبراز الانقسام داخل الصف الأميركي بين مؤيد ومعارض للعلاقة مع الرياض وابن سلمان على وجه التحديد، الذي يتلقى صفعات متتالية لكنه لا يرتدع عن ممارساته أكان في الداخل أو في الخارج، ولا يبدو أن تحديا واضحا سيوضع أمامه ولي العهد الذي يصر على استكمال مشواره في الانتهاكات ويعارض كل القرارات الدولية والشرعات التي تضبط سلوكه المتفلت، على مرأى من المجتمع الدولي، والذي يبدو محكوما بالمال وسياسة الابتزاز المتواصلة، التي تضع الملفات الحقوقية بعين العاصفة وفي مهب الرياح المحكومة بعلاقة المصالح المشتركة، التي من شأنها طرح تساؤلات عن مسار العلاقات بين الرياض وواشنطن في ظل تصدر المصالح قائمة العلاقات بين الجانبين؟