زيارة تاريخية للبابا فرنسيس إلى العراق، هي الأولى من نوعها إلى بلاد الرافدين، كما تحمل معها دلالات ومعاني عديدة. اختيار البابا لهذه «الأرض المعذّبة منذ سنوات»، على حدّ تعبيره، لم يكن عبثياً، بل تماهياً مع شخصيّته المحبّبة التي يعتبرها كثيرون أقرب من البسطاء من الناس، منها إلى أصحاب السلطة والمرفّهين.
والعراق، هو أرض بعض أقدم المجتمعات المسيحية في المنطقة والعالم، التي تضاءل تعدادها بشكل دراماتيكي، في العقدين الأخيرين، بعد الاجتياح الأميركي عام 2003، ومن شأن هذه الزيارة إعطاء الأمل والدعم المعنوي للمسيحيين الباقين في أرضهم.
كذلك، يأمل البابا فرانسيس أن تفتح رحلته إلى العراق باباً مع الطائفة الشيعية، محاكياً رحلته إلى أبو ظبي، في شباط 2019، ولقائه هناك شيخ الأزهر أحمد الطيب، وتوقيعهما ما يسمّى «وثيقة الأخوة الإنسانية»، لتشجيع مزيد من الحوار بين المسيحيين والمسلمين، حيث يأمل أن يؤيّد المرجع الشيعي علي السيستاني هذه الوثيقة.
وحطّت طائرة البابا فرنسيس، اليوم، في مطار بغداد، في بداية زيارة تاريخية هي الأولى لحبر أعظم إلى العراق، حاملاً رسالة تضامن إلى إحدى أكثر المجموعات المسيحية تجذّراً في التاريخ في المنطقة، والتي عانت لعقود من ظلم واضطهادات، وساعياً إلى تعزيز تواصله مع المسلمين.
وفور وصوله، تطرّق إلى كلّ المواضيع الحساسة والقضايا التي يعاني منها العراق، خلال لقائه الرئيس العراقي برهم صالح. وقال البابا: «لتصمت الأسلحة! ولنضع حداً لانتشارها هنا وفي كلّ مكان! ولتتوقف المصالح الخاصة، المصالح الخارجية التي لا تهتم بالسكان المحليين. ولنستمع لمن يبني ويصنع السلام!».
وأضاف: «كفى عنفاً وتطرفاً وتحزبات وعدم تسامح! ليعط المجال لكل المواطنين الذين يريدون أن يبنوا معاً هذا البلد في الجوار، وفي مواجهة صريحة وصادقة وبنّاءة».
كذلك، دعا إلى «التصدّي لآفة الفساد وسوء استعمال السلطة، وكل ما هو غير شرعي»، وقال: «ينبغي في الوقت نفسه تحقيق العدالة، وتنمية النزاهة والشفافية وتقوية المؤسسات المسؤولة عن ذلك» من أجل تحقيق الأمن والاستقرار.
وفي إشارة الى المسيحيين في العراق، شدّد على ضرورة «ضمان مشاركة جميع الفئات السياسية والاجتماعية والدينية، وأن نؤمّن الحقوق الأساسية لجميع المواطنين»، قائلاً: «يجب ألا يُعتبر أحد مواطناً من الدرجة الثانية».
كذلك، سمّى الأيزيديين، «الضحايا الأبرياء للهجمية المتهورة وعديمة الإنسانية، فقد تعرّضوا للاضطهاد والقتل بسبب انتمائهم الديني وتعرّضت هويتهم وبقاؤهم نفسه للخطر».
من جهته، رحّب الرئيس العراقي بالبابا فرنسيس «ضيفاً عزيزاً كريماً» في العراق، وقال: «فيما يحل بيننا قداسة البابا ضيفاً عزيزاً كريماً»، هناك «فرصة تاريخية لجعلها مناسبة لإعادة التأكيد على قيم المحبة والسلام والعيش المشترك ودعم التنوع” الديني والاجتماعي».
وكانت الطائرة التي تقلّ البابا، قد هبطت عند الواحدة و55 دقيقة (10,55 ت غ). وقال البابا لصحافيين، على متن الطائرة: «أنا سعيد باستئناف السفر»، بعد 15 شهراً لم يغادر خلالها الفاتيكان بسبب جائحة «كوفيد – 19»، «وهذه الرحلة جزء من واجب على أرض معذّبة منذ سنوات». وأضاف: «سأحاول اتّباع التعليمات وعدم مصافحة الجميع، لكنّني لا أريد البقاء بعيداً».
وكان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أوّل المستقبلين عند نزول البابا من الطائرة، حيث أقيمت على أرض المطار مراسم رسمية تخلّلها أداء مجموعة تراتيل دينية وأغانٍ عراقية ورقصات، تعبيراً عن الترحيب بالحبر الأعظم.
ما هو برنامج الزيارة؟
وبعد زيارة قصر الرئاسة في بغداد، من المقرّر أن يزور البابا كنيسة «سيدة النجاة»، حيث وقع تفجيرٌ إرهابي عام 2010 أدى إلى مقتل 58 شخصاً. وغداً، سينطلق برحلة إلى النجف، من أجل زيارة مرتقبة للمرجع الديني، علي السيستاني، تهدف إلى تعزيز الروابط بين الأديان والتشجيع على التسامح الديني.
أما الأحد، فسيزور البابا مدينة أربيل في إقليم كردستان، حيث سيلتقي كلّاً من رئيس الإقليم، نيجيرفان البرزاني، ورئيس وزرائه، مسرور البرزاني. بعدها، سيتوجّه إلى مدينة الموصل حيث سيصلّي لضحايا الحرب ضدّ «داعش»، ومن ثمّ سيزور بلدة قراقوش السريانية، قبل أن يعود إلى أربيل، حيث سيقيم قداساً جماعياً في ملعب «فرانسو حريري».
زيارة في وقت غير مستقر
ويوم الإثنين، ستُقام احتفالية وداعية رسمية قبل مغادرته إلى روما. وتأتي الزيارة غير المسبوقة، في وقت يشهد فيه العراق ارتفاعاً كبيراً في أعداد الإصابات بفيروس «كورونا»، فيما تفرض السلطات إغلاقاً تاماً يتزامن مع الزيارة. كذلك، تشهد البلاد توتّرات أمنية.
وقال البابا، في رسالة مصوّرة موجّهة إلى الشعب العراقي، وزّعها الفاتيكان عشية الزيارة: «أخيراً سوف أكون بينكم، أتوق لمقابلتكم ورؤية وجوهكم وزيارة أرضكم، مهد الحضارة العريق والمُذهل».
وسيكتفي جزء كبير من العراقيين بمشاهدة البابا عبر شاشاتهم التلفزيونية، كما من المتوقع أن يستخدم سيارة مصفّحة في تنقلاته على طرق أعيد تأهيلها خصّيصاً استعداداً للزيارة، إضافة إلى مروحية وطائرة خاصّة للتنقّلات البعيدة، سيعبر خلالها فوق مناطق لا تزال تنتشر فيها خلايا لتنظيم «داعش».