كتب/ عبد الباري عطوان: ماذا بعد إنهيار هدنتي حلب وصنعاء ؟
انهارت يوم امس هدنتان، واحدة في حلب والثانية في صنعاء، وعادت الطائرات الى القاء ما في جوفها من حمم قاتلة، بينما تستمر المعارك على اشدها في اطراف مدينة ثالثة هي الموصل.
ضاعت البوصلة، لم يعد يعرف المواطن العربي خريطة التحالفات، والأطراف العديدة المشاركة فيها، لشدة تعقيداتها، وتداخلها، وتقلباتها، واستعصائها على الفهم بالتالي.
انهيار الهدنة في اليمن يعني مواصلة التحالف العربي بقيادة السعودية القصف الصاروخي لما تبقى، ويستحق القصف، او لا يستحقه في اليمن، هذا اذا بقي أي شيء قائما بعد غارات “عاصفة” مستمرة منذ 19 شهرا اهلكت الحرث والنسل، ومن شاهد صور الأطفال الجوعى في الحديدة، ومناطق أخرى في اليمن، من جراء الحصار، وجلودهم الملتصقة بعظامهم، واعينهم الجاحظة، والتعبيرات المؤلمة، الحزينة، اليائسة، على وجوه امهاتهم، يدرك حجم الجرائم ضد الإنسانية التي يجري ارتكابها في هذا البلد العربي الشهم المعدم.
لم نتوقع لهدنة حلب ان تُكمل مدتها وهي 72 ساعة للسماح بوصول المعونات الإنسانية الى اكثر من مئتي الف من أهلها المحاصرين أيضا، فالنوايا الروسية السورية باستئناف القصف للقضاء على المسلحين في حلب الشرقية ومعظمهم من جبهة “فتح الشام”، او النصرة سابقا، لم تكن خافية عن الامريكان والأتراك والدول العربية الأخرى الداعمة لهذه المعارضة والمعادية للتحالف الروسي.
احتمالات سقوط حلب الشرقية باتت كبيرة، ليس لان القصف سيكون سجاديا، واعداد الضحايا سيكون كبيرا بالتالي، انما ايضا لان القوى التي كانت تصرخ عبر اذرعها الإعلامية الجبارة لنصرة المدينة وأهلها، باتت مشغولة بحرب الموصل، التي جرى اشعالها عمدا في هذا الوقت، لانجاح عملية المقايضة، وتقاسم الغنائم بين المتحالفين المتقاتلين بالإنابة في المدينتين، أي حلب مقابل الموصل، ولكن هذا لا يعني ان معركة الأخيرة، أي الموصل، ستكون سهلة، بل اكثر صعوبة وتعقيدا مما يتوقعه الكثيرون، فالمتحصنون في خنادقها وحواجزها الاسمنتية وانفاقها، لم يهربوا منها الى الرقة، مثلما ذكرت وسائل اعلام التحالف، بل شنوا هجمات استباقية مضادة، مع تسليمنا بأن موازين القوى لصالح التحالف وآلته العسكرية الجبارة.
***
بات من الصعب علينا تمييز الخيط الأبيض من الأسود في هذه الحروب التي تتوالد على ارضنا، وفي مدننا منذ خمس سنوات، وتزداد اشتعالا، ونتحدى ان يقدم لنا من يدعون الفهم صورة واضحة تشرح لنا بأن ما يجري غير ما نؤمن به وهو ان الهدف ليس “الدولة الإسلامية”، ولا “داعش”، ولا “النصرة”، فهذه كلها أدوات او ذرائع، وانما تفتيت بلداننا وإعادة رسم حدود جديدة، لكيانات جديدة، ولشعوب جديدة متحاربة فيما بينها لاضعافها لمصلحة إسرائيل.
صالح مسلم، رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي كان بالأمس الطفل المدلل لامريكا والغرب، بات يصرخ اليوم من الخذلان الأمريكي، ويؤكد ان تركيا التي تقصف قوات سورية الديمقراطية دون رحمة وتطردها من المناطق التي سيطرت عليها في جرابلس ومنبج والباب وقرى وبلدات عديدة في شمال سورية، حصلت على ضوء اخضر امريكي وروسي.
عندما حذر كثيرون الاكراد الذين راهنوا مرة أخرى على الامريكان املا في الحصول على دولتهم، واكدوا لهم ان التعايش مع العرب في اطار دول مدنية في المستقبل المنظور، على أسس العدالة والمساواة، قوبل هؤلاء بالاتهامات بالعنصرية والشوفينية.
الاتراك توغلوا في الأراضي السورية لمنع تحقيق هذا الحلم الكردي، ويريدون إقامة منطقة عازلة على مساحة خمسة آلاف كيلومتر مربع، الحكومة السورية اعتبرت هذا التوغل احتلالا، والاكراد رأوا فيه تطهيرا عرقيا، والحديث الآن يدور عن تحالف بين الجانبين، وشن حرب استنزاف مشتركة ضد هذا الاحتلال.
اكراد أربيل بزعامة السيد مسعود البارزاني يوظفون قواتهم “البشمرغة” في خدمة التحالف الأمريكي، ويشاركون في الحرب ضد “الدولة الاسلامية”، او “داعش”، في الموصل املا في ان تكون المكافأة مزدوجة، أي اعلان استقلال إقليم كردستان بدعم امريكي، والحصول على “درة” التاج النفطي في الشمال العراقي، أي مدينة كركوك.
والأخطر من كل هذا وذاك السماح لاطقم محطات تلفزة إسرائيلية لمرافقة قواتهم في حربها لاستعادة مدينة الموصل، وإخراج قوات “الدولة الإسلامية” منها، في تحد واضح وصريح واستفزازي للمشاعر العربية والإسلامية.
اكراد العراق يدخلون في ثأرات مع العرب، او جزء منهم، في مدينة الموصل، وربما تمتد بعد ذلك في حال سقوطها الى بغداد والبصرة والنجف وسامراء وكل العراق العربي “اليوم التالي”، أي في مرحلة اقتسام الغنائم بعد ان يهدأ غبار الحرب، واكراد سورية “يتذبذبون” في تحالفاتهم وعداواتهم، تارة مع النظام السوري العربي، وتارة أخرى ضد النظام التركي الطوراني، وثالثة مع أمريكا، وحتى يستقروا على رأي، ويقرروا من هو العدو، ومن هو الصديق، ربما يكون الوقت قد فات في منطقة تشهد تغييرات متسارعة جدا لا تحتكم الى منطق.
***
هناك غرف سوداء، وتحالفات سرية مبهمة، بين قوى عظمى وأخرى إقليمية، تشحذ سكاكينها للحصول على نصيبها من لحم الرجل العربي المريض في تكرار حرفي لسيناريو ما بعد الحرب العالمية الأولى مع تبدلات في الوجوه وليس في الأدوار والأدوات.
حكومة حزب العدالة والتنمية التي سهلت هذا المخطط، بحسن نية او سوئها، لن تسلم، وقد تتذوق السم نفسه، وربما تجد نفسها امام خيارين في المستقبل المنظور: الأول، انقلاب عسكري جديد ينجح فيما فشل في تحقيق الانقلاب الأخير، او حرب داخلية عنصرية طائفية، وسيكون عدم الاستقرار هو العنوان الأبرز في الحالين.
صورة سوداوية مرعبة.. نعم.. ومن يرى غير ذلك من منظري الفوضى الخلاقة التي زرعوا بذورها في المنطقة قبل خمس سنوات، وبدأنا نحصد ثمارها قتلا وتدميرا وخرابا عليه ان يرينا ما يناقض ذلك، ويقدم لنا الحلول والمخارج، فهو ادرى بها، لانه ساهم بالدور الأكبر في وصولنا الى ما وصلنا اليه.