لم نُبالِغ عندما قُلنا، وفي السّاعات الأولى من الإعلان عن توقيع “اتّفاقات التطبيع” بين دولتيّ الإمارات والبحرين من ناحيةٍ ودولة الاحتِلال الإسرائيلي من ناحيةٍ أُخرى في تشرين أوّل (أكتوبر) الماضي أنّ هذه الاتّفاقات والقبب الحديدية تدشين لتحالف عسكري أمني إسرائيلي خليجي تحت ذريعة مُواجهة الخطر الإيراني المُشترك، وبرعايةٍ أمريكيّةٍ مُباشرةٍ، ونحن هُنا لا نتحدّث عن خُمور الجولان، أو ليمون وثمرة الأفوكادو من مُستوطنات الضفّة، وإنّما عن صواريخ وخُبراء ومعدّات عسكريّة.
خطوات كثيرة يجري اتّخاذها، الواحدة تِلو الأُخرى لبلورة هُويّة هذا التّحالف الذي خرج من السّر إلى العلانية، وتطويره وتحديد أهدافه، كان آخِرها اليوم عندما كشفت وسائل إعلام إسرائيليّة عن نشر الولايات المتحدة بطّاريات منظومة “القبّة الحديدية ” في قواعدها العسكريّة في منطقة الخليج تحت ذريعة حِمايتها من أيّ هُجوم إيراني.
القواعد الأمريكيّة موجودةٌ في عدّة دول خليجيّة، ومُعظم هذه الدّول، إن لم يكن كلّها، لا تستطيع أن تتدخّل في شُؤون هذه القواعد، وعمليّاتها، وإدارتها التشغيليّة، وليس من حقّها معرفة من يَدخُل إليها أو من يَخرُج منها، ولا نَستبعِد، أو نَستغرِب، أن تكون هذه القبب الحديدية الإسرائيليّة قد وصلت إليها فِعلًا وقبل أشهر، وبمعرفة الدّول المُضيفة، وبغطاءٍ أمريكيٍّ “شكليّ”
مُضافًا إلى ذلك أنّ هذه القواعد التي تَضُم أحدث المنظومات الدفاعيّة الصاروخيّة الأمريكيّة لا تحتاج للقبب الحديدية الإسرائيليّة لحِمايتها، فأمريكا هي الدّولة الأعظم في العالم، وهذه “القبب” الإسرائيليّة تأسّست بتمويل وتكنولوجيا أمريكيّة، ولم يَحدُث مُطلقًا ومُنذ الحرب العالميّة الثّانية قبل ثمانين عامًا أن استوردت الولايات المتحدة أيّ أسلحة دفاعيّة أو هُجوميّة من أيّ دولةٍ أُخرى، خاصّةً “إسرائيل” التي تُدين لها بأسباب وجودها وبقائها، وحدّث العاقِل بِما يَعقِل.
قبب حديدية في دول صغيرة المساحة
وصول القبب الحديدية إلى دول خليجيّة يعني وصول خُبراء إسرائيليين للإشراف على تركيبها أوّلًا، ومن ثمّ تشغيلها ثانيًا، سواءً جرى نصبها داخِل القواعد الأمريكيّة، أو خارجها، فهذه مسألة هامِشيّة، ونحن نتحدّث هُنا عن دول صغيرة المساحة، باستِثناء المملكة العربيّة السعوديّة.
توقيت هذا الوصول وتسريب الإعلان عنه، بعد أيّام معدودة من وصول إدارة الرئيس الجديد جو بايدن إلى البيت الأبيض مُهم، وينطوي على مُؤشّرات مُهمّة، لأنّه يعني أنّ “الاتّفاقات السريّة” التي جرى التّوصّل إليها في هذا الخُصوص، تمّت في زمن إدارة الرئيس دونالد ترامب، وعلى أيدي ونتيجة جُهود جاريد كوشنر عرّاب التّطبيع، والأب الرّوحي للعُلاقات الإسرائيليّة الخليجيّة.
وكالة “الإسوشيتد برس” الأمريكيّة قالت في نبأ لها اليوم إنّ المملكة العربيّة السعوديّة أبدت اهتمامًا كبيرًا بشِراء هذه القبب الحديدية الإسرائيليّة بعد الهُجوم الصّاروخي اليمني الذي دمّر مُنشآت شركة “أرامكو” النفطيّة في مِنطقتيّ بقيق وخريص، حيث فَشِلَت صواريخ “باتريوت” الأمريكيّة في اعتِراضها، ولهذا ليس من المُستَغرب أن تكون هذه “القبب” وصلت بالفِعل إلى قاعدة الأمير سلطان الجويّة في الخرج، وباتت جاهزةً للعمل بإشراف خُبراء إسرائيليين، جنبًا إلى جنبٍ مع “شقيقاتها” الأُخريات في قطر والإمارات والبحرين.
كواليس التطورات العسكرية التحالفيّة بين دول الخليج وإسرائيل
خُطورة هذه القبب الحديدية والتطوّرات العسكريّة التحالفيّة بين دول خليجيّة و”إسرائيل” تَكمُن في أنّ هذه الدّول انسلخت كُلِّيًّا عن ارتِباطاتها العربيّة والإسلاميّة، وباتت تحتمي بالمِظلّة الإسرائيليّة الأمنيّة بَشكلٍ مُباشرٍ، بعد اتّفاقات غير مُتكافئة، وتحوّلها إلى تابعٍ عليه أن يرضخ ويَستَسلِم بالكامل لمطالب وإملاءات السيّد الإسرائيلي الأمنيّة والماليّة دُونَ أيّ نقاش.
اليوم تَصِل القبب الحديدية، وغدًا الغوّاصات النوويّة، وبعد غد المُناورات الجويّة والبريّة والبحريّة المُشتَركة، وهذا التطوّر والتوسّع للتّحالف الجديد قد يجعل من هذه الدّول هدفًا لضربات جيرانها، وخاصّةً إيران، وكُل حديث عن حِوار بينها وبين طِهران الذي تطرحه دولة قطر، ذَرٌّ للرّماد في العُيون، فقد سبق السّيف العذل، واتّسع الخرق على الرّاقع، وستَجِد إيران نفسها، إذا وافقت، في حِوارٍ مع دول لا تملك قرارها السّيادي المُستَقِل، وربّما سيستدعي الأمر تفاوضها مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي مُباشَرةً اختِصارًا للوقتِ والجُهد.
هُناك أمران مُهمّان لا يُمكن إغفالهما كنتيجة حتميّة لكُل ما تقدّم:
الأوّل: أنّ هذا الوجود الإسرائيلي الأمني والعسكري المُتسارع في منطقة الخليج سيزيد من احتِمالات الحرب وعدم الاستِقرار، وليس العكس، لأنّه سيَجعل من دولها أرضيّةً، وميدانًا لأيّ صِراع إيراني من ناحيةٍ، وإسرائيل وأمريكا من ناحيةٍ أُخرى، وفي حالِ فشل أيّ مُفاوضات قادمة حول العودة إلى الاتّفاق النووي، واحتِمالات الفشل أكبر بكثير من احتِمالات النّجاح.
الثاني: أنّ هذا “التّغوّل” الخليجي المُتسارِع في التّحالف مع “إسرائيل” والانسِلاخ كُلِّيًّا عن منظومة الأمن العربي، سيُزعِج دُوَلًا مركزيّةً عربيّةً وإسلاميّةً رئيسيّة على المدّيين المُتوسّط والبعيد، مِثل مِصر وسورية والجزائر والعِراق، والمعلومات المُتوَفِّرة لدينا تُؤكّد بأنّ المُؤسّسة العسكريّة المِصريّة في قمّة الغضب من هذا التّغوّل، وأنّ العُلاقات المِصريّة من ناحيةٍ والإمارات والبحرين والسعوديّة في النّاحية المُقابِلة “مُتأزّمة” لأنّ هذه الدّول تجاوزت كُلّ الخُطوط الحُمر، واستَغلّت حالة الضّعف الاقتِصادي المِصريّة للذّهاب بعيدًا في تَحالُفِها مع “إسرائيل”، العدوّ الاستراتيجيّ لمِصر.
القبب الحديدية هشه أمام صواريخ المقاومة
خِتامًا “نُذَكِّر” هذهِ الدّول الخليجيّة، لأنّه لم يَعُد للتّحذير أيّ فائدة، أنّ القبب الحديدية الإسرائيليّة لم، ولن، تحمي تل أبيب والمُستوطنات الإسرائيليّة من الصّواريخ القادمة من قِطاع غزّة وجنوب لبنان، ولن تكون الحرب القادمة من اتّجاهٍ واحد وبالتّالي لن تحميها من شقيقاتها الصّاروخيّة القادمة من اليمن والعِراق وإيران المُحيطة بها، لأنّ هذه الصّواريخ باتت أكثر دقّةً وفاعليّةً، وتزداد تَطَوُّرًا، ولعلّ ما حدث في بقيق وخريص وينبع، وأخيرًا في جدّة بعض الأمثلة الدّروس.
زمن ترامب وكوشنر وبومبيو انتهى ولن يعود، وحالة الهوان العربيّة الحاليّة تقترب من نهايتها، وزمن التّفوّق العسكريّ الإسرائيليّ يتآكل ويَدخُل مرحلة الهرم، والنّظام العالمي الأمريكي الأوروبي على حافّة لفظ أنفاسه الأخيرة في ظلّ صُعود قِوى عُظمى مُنافسة، أمّا سِيادة “العصر النّفطي” الذي حكم المِنطقة طِوال نِصف القرن الماضي، وتحكّم بمُقدّساتها العربيّة، فنِهايته الوشيكة مَكتوبةٌ على حائط صندوق النّقد الدولي.. والأيّام بيننا.