مع عزف ألحان التنصيب، وسلام رسمي واحتفالات تترقبها ديمقراطية أمريكا في يناير بعد كل أربعة أعوام، بايدن بالبيت الأبيض رئيسًا رسميًا للولايات المتحدة الأمريكية، مواجهًا إرثًا ترامبيًا ثقيلًا خلفته سياسات تناثرت بكل شبر بالعالم دون روية.. وفي مقدمتها منطقتنا العربية.
كعادة رؤساء أمريكا عند دخولهم للبيت الأبيض, تكون البداية بممحاة رئاسية لقرارات تخص من سبقه، تعلن وصوله إلى عرش البلاد وتضفي عليه لمحة تفاؤل جماهيرية.. بأن القادم لن يكون كالسابق أبدًا، خصوصًا في الفترات الصعبة من تاريخ البلاد. وهنا بين الخليج والمحيط يترقب الجميع ممحاة الرئيس الجديد.. كيف سيتعامل الديمقراطي المخضرم مع إرث الرئيس الأهوج مطلقًا في تاريخ بلاده، على أي شئ ستأتي الممحاة، وأي شئ ستثبت؟
صفقة القرن
ربما يصح القول أنه لا شئ أبرز رأسًا بالفترة الترامبية من صفقة القرن، وأنه لم يفعل رئيس أمريكي للاحتلال الإسرائيلي مثلما فعل ترامب، فكيف ستنظر ممحاة بايدن وقلمه لصفقة القرن، وقرارات كنقل السفارة الأمريكية للقدس؟
ينقسم المحللون توقعًا لمواقف بايدن من الصفقة وتبعاتها، لكن الكل يتفق أن السياسي المخضرم أحد أقوى الداعمين لإسرائيل منذ عقود، وأن قرارات عدة اتخذها ترامب في هذا المضمار هي من جل توجه البيت الأبيض جمهورية وديمقراطية لإرضاء إسرائيل، فالكل تقريبًا متفق منذ سنين على ضم إسرائيل لأجزاء من الضفة الغربية، كذلك نقل ملف السفارة الامريكية للقدس.
فيمكن ببساطة معرفة التوجه بمعرفة أن كل النخب الأمريكية تقريبًا تعبر القدس جزءً من الدولة العبرية بالفعل، ووسط اعتبارات سياسية جمة بالداخل الأمريكي ومحاولة إرضاء أطراف مهمة مؤثرة بالحكم الأمريكي يتلاعب بها اللوبي اليهودي, لن يكون بادين قادرًا على لمس أكتاف صفقة القرن أو قرار نقل السفارة للقدس مثلًا.
لكن ورغم كل ذلك فثعلب الديموقراطيين الماكر -حسب المحللين- لن يترك حبلًا على غاربه أبدًا لإسرائيل وداعميها الترامبيين بمؤسساته، بالطبع سيتلاعب بأطراف الحبال لتقليم مخالب إسرائيل المتزايدة منذ سنوات بوجه الأمريكان وإعادتها لسنوات انتظار موافقة العم الأمريكي على خطواتها وضرباتها، أجل لن يقترب بايدن على أكثر التحليلات من جوهر قرارات سابقة لكنه سيلعب على اختلاف الأمريكيين في تفسيرها وصراحتها وتوقيتها وطريقة إعلانها.
فالنخب أجل تعتبر القدس جزءً من دولة اليهود، لكنها تنقسم بشدة على إعلانها عاصمة بالوقت الحالي، أو بطريقة إغضاب مطلقة للفلسطينيين مثلًا، خصوصًا أنه سيزيد من قوة خصوم فكرية بالأراضي الفلسطينية كمنهجية العدو اللدود حم.اس على سبيل المثال في المواجهة والنظر للقضية. ربما نستطيع القول أن ممحاة بايدن ستتحول إلى متلاعب سياسي أمام صفقة القرن، ستتخلى عن أحادية القرار بالمحو أو الإثبات، لكنها بكل حال وحب كل التوقعات لن تضر أبدًا بحليفة بايدن وبؤرة دعمه لعقود ماضية.
إيران والاتفاق النووي
في أول أيامه على منصة الترشيح للانتخابات الرئاسية الأمريكية، لم يدخر ترامب جهدًا للتأليب على إرث أوباما وقراراته الرئيسة والمصيرية بالداخل والخارج، ومع أول لحظاته بالبيت الأبيض, كانت ممحاته تدور عيانًا وخفاءً بالقرارات، وعلى رأسها بالطبع العلاقة مع إيران وملفها النووي، والموقف من الاتفاق المبرم بعهد أوباما بوقفها برنامجها النووي الحربي وإثباته جُملةً عند النَّقرة السلمية مقابل رفع العقوبات عنها بالكامل.
جملة وتفصيلًا نقض ترامب الاتفاق النووي مع إيران، ورّط الحلفاء رغم صفقات اقتصادية كبرى عقدتها شركاتهم لاستخراج النفط الإيراني كبريطانيا مثلًا، وأعلن أن حليفها عدوه وعدوها حليفه، متلقيًا دعمًا هائلًا من إدارة المملكة السعودية تقويةً لموقفه وسخاءً على بلاده بفترة حكمه.
أما بايدن وبدائرة الديمقراطيين الدوّارة على رأس الجمهوريين وترامبهم، فموقف مختلف تمامًا تنتظره البلاد من إيران، يمكن القول أنه سيكون ربما امتدادًا قريبًا وليس مطابقًا لخط سلفهم أوباما.
بالطبع لن يكون سهلًا إحياء اتفاق لم تترك له قمة ولا قاع إجراءات أربع سنوات نقضته بلا هوادة، لكن بايدن تعهّد بإحياء ما مات، وعلى كل رحبت إيران بإحيائه فعليًا، ويتلقى بايدن دعم حلفاء الأطلسي التاريخيين لأمريكا في خطواته للإحياء، فألمانيا تدعم العودة للاتفاق والبناء عليه لاتفاق جديد، وفرنسا وبريطانيا أبدتا استعدادهما وجاهزية مسارهما الدبلوماسية للمشاركة ضمن مجموعة الأوروبيين الثلاثية “E3” للعودة للتفاوض مع إيران حول ملفها النووي.
لكن مع كل هذا الاستعداد والنوايا الحسنة, لن يكفي حلف ترامب طاولة وحوار -كالسابق- للعودة للمربع الأول للاتفاق بالطبع، فالاتفاق ولكل مربعاته وزواياه لم يعد موجودًا بالفعل. ورغم ضربات تقليم لأظافرها مؤلمة تقلتها إيران، إلا أنه من يؤمّن اتفاقها ثانيةً مع الغربيين؟ كما يتساءل المحللون دائمًا.
وتجيب خبراء أوربيون أنه لا يمكن العودة بإيران للطاولة وعقد اتفاق سهل دون إبراز صفقات حقيقية مستدامة لها مع الغرب، خصوصًا مع رفضها توسيع التفاوض وشروطها بإلزام جيرانها الخليجيين بتقييد نفقاتهم العسكرية طبقًا لبنود “مبادرة هرمز” لتفنيد مخاوفهم الأمنية وإيجاد صيغة سلام دائمة بالمنطقة.
أجل! تغير الشرق الأوسط كثيرًا بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، فطبعت دول كالإمارات والبحرين مع إسرائيل، لكن ممحاة الديمقراطي وثقل الإرث الترامبي على الجانبين فعليًا قادرة على إعادة الطاولة والحوار وإنجاز اتفاق جديد بمربعات أكثر وضوحًا مع الإيرانيين، وإلا ففوضى من انتشار الأسلحة وانهيار الاقتصاد الإيراني المشرف على الموت فعليًا قد يتبعان فشل طاولات الدبلوماسية.. ليواجه العالم وشرقه الأوسط تحديات أكبر بكثير من القائمة حاليًا.
السعودية.. البقرة الحلوب
لا يمكن لأي مراقب الحديث عن الشرق الأوسط وسياسات أمريكا دون الحديث عن حليفتها الكبرى هناك, مملكة آل سعود، حليفة ترامب الأقوى ومصدر حليبه اللانهائي لأربع سنوات كاملة. كانت أولى زيارات ترامب خارج أمريكا للسعودية على خلاف كل أسلافه وبروتوكول بلاده المعهود تاريخيًا، لكن (شِوالًا) ذهبيًا سخيًا عاد به العم ترامب من هناك يحمل به نصف تريليون دولار وهدايا وصفقات أسلحة ودعم اقتصادي من ملك السعودية كافيًا لإسقاط البروتوكول ونسيان التاريخ المعهود.
ليبدأ منافسه الديقراطي حملته انتقادًا لاذعًا لحلفه مع آل سعود ودعم جرائمهم باليمن، وحماية (مؤخرة) أميرهم المنشار في قتل الصحفي جمال خاشقجي بقنصلية بلاده بإسطنبول، متوعدًا السعودية بالحساب وإنهاء إمدادها بالأسلحة، منتقدًا أوضاع حقوق الإنسان بالمملكة، متعهدًا بإنهاء حرب اليمن وإثقال الفاتورة الحسابية على الجبين السعودي، وبالطبع أخطر ما أعلنه هو اتفاقه المرتقب مع إيران.. وربما الأخير أكثر ما يمكن أن يزعج به آل سعود بعدمنا مالت سياسات بلاده إلى شاطئها بالكامل.
قبل أيام قليلة أعلن وزير خارجية ترامب مايك بومبيو إعلان الحوثيين جماعة إرهابية، وسرى القرار بحيز التنفيذ قبل ساعات قليلة فقط من ولوج بايدن البيت الأبيض، ليعلن مرشحه لمنصب وزير الخارجية أنتوني بلينكن في أول دقائقه أنه سيعيد النظر في قرار بومبيو تجاه الحوثيين.
متعللًا بأنه سيمنع وصول المساعدات الإنسانية ويسعّر قسوة الحرب على المدنيين، إضافة إلى عزمه إنهاء دعم الحملة العسكرية السعودية هناك فورًا، قائلًا بالحرف الواضح: “سنفعل ذلك بسرعة كبيرة”، ويتعهد رئيسه بايدن بسياسات أكثر رشدًا وبرودًا تجاه السعودية بعد توجه ثوري ترامبي، داعمًا للمعارضين والنشطاء بالمملكة، وأن بلاده لن تتحلى من قيمها عن باب بيع النفط والأسلحة.
على الجانب الآخر, تستعد مملكة آل سعود بوضوح منذ إعلان فوز بايدن لفترة أكثر صعوبة بعدما رمحت كما تشاء في أربع سنوات ترامبية، أملًا في تخفيف حدة انتقادات بايدن وخطوات سلطته تجاهها، فأعلنت الإفراج عن الناشطة النسوية لجين الهذلول صابحة أكثر النداءات الحقوقية الدولية والتضامنية، كما أسرعت للتصالح مع قطر متخلية عن شروطها وشروط الحلفاء، واستقبل بالأحضان ولي عهدها أمير قطر كأن شيئًا لم يكن بعدما فرض حصارًا بعد زيارة العم ترامب و(شواله) الذهبي مباشرة دون روية أو رحمة.
أما تحت الطاولة، فتفرض السعودية مؤخرًا هدوءً أمنيًا شاملًا مع إسرائيل، سمحت مثلًا لطائراتها بعبور أجواءها إلى الإمارات، والتقي نتنياهو على شاطئ البحر الأحمر بابن سلمان، وتسرب الخبر للإذاعة كأنه لم يعد جرمًا بعد الآن.
وفوق الطاولة تحتفظ السعودية بورقة مساومة لبادين تحتاجه سلطته لموازنة أي خطوات لها تجاه إسرائيل، ورقة التطبيع السعودي الإسرائيلي المتوقع، فتابعة السعودية البحرين ونصف تابعها السودان والمغرب وحليفتها الإمارات أقدما على التطبيع بمباركة سعودية واضحة، لكن ومع كل التوقعات أمهلت السعودية قرارها.. إما مساومة لخطوات بايدينية معاقبة تجاهها، أو هدية دسمة كـ(شوال) العم الترامب قبل أربع سنوات.
مصر وحقوق الإنسان
على مدار عقود لم تشهد حقوق الإنسان بمنطقة العرب تدهورًا حادًا مثلما حدث بالأربع سنوات الترامبية، فابن سلمان ومنشاره ومعتقلاته، ومعتقلات ديكتاتور ترامب المفضل عبد الفتاح السيسي وقبضته الامنية، كلها ملفات على طاولة ممحاة بايدن وقلمه.
في حلمته الرئاسية انتقد بايدن أوضاع حقوق الإنسان بمصر، مهاجمًا فتح ترامب مجالات القمع للسيسي بهذا القدر، قائلًا بوضوح أنه لن يعطي السيسي شيكًا على بياض أبدًا، ويتحدث المراقبون عن وضعه مسألة حقوق الإنسان بمصر أولوية بملفاته، وسيمارس ضغطًا هائلًا على مؤسسات السيسي ونظامه.
فضلًا عن ممارسة الديمقراطيين بالكونجرس ضغطًا كبيرًا طوال السنوات الفائتة على نظام السيسي، حين دعا 40 عضوًا وزير خارجية ترامب بومبيو إلى ربط العلاقات الدفاعية مع مصر بمدى استجابتها لدعوات تحسين حقوق الإنسان، ورسالة أخرى لاحقة وجهها 56 من النواب الديموقراطيين إلى السيسي دعوةً للإفراج عن السجناء السياسيين.
على الجانب المصري، ساد تفاؤل لدى المعارضة وقلق وحذر لدي معسكر السيسي، فبايدن الذي تولى نائب رئاسة أوباما الداعية لتنحي حسني مبارك قبل 10 سنوات، والمتعهد بالدفاع عن حقوق الإنسان لن يترك للقمع السيساوي حبلًا على الغارب. لكن ومع كل هذا التفاؤل.. ترفع بوضوح لافتة أن العلاقات الدولية لا تدار بالتصريحات، وهذا حقيقي بالفعل.
فعلاقات مصر وأمريكا استراتيجية لدرجة لا يختلف عليها ساكنو البيت الأبيض كثيرًا، يضمن دعم أمريكا لمصر ولاءها بعد تحولاتها السوفييتة في عهد أنور السادات، ويضمن ساكنو قصر الاتحادية بمصر هامشًا للحريات والإجراءات لا يسوّد وجوه الأمريكان كثيرًا.
على جانب أكثر أهمية، لا يمكن للأمريكان تجاوز قوة إنجازهم بالقاهرة في اتفاقية كامب ديفيد، وأبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية بالشرق الأوسط والقضية الفلسطينية ودور النظام المصري المحوري الدائم بين جميع أطرافها خصوصًا حين تشتعل الجبهات بين غزة وإسرائيل، وبالنظر للنفوذ الأمريكي بالقاهرة نجده دائمًا كان قوة تثبيط للتغيير لا تحفيزًا عليه أو دعمه، فطوال 30 عامًا كانت انتقادات حقوق الإنسان لنظام مبارك قائمة، لكنه وحتى أولى أيام ثورة يناير كان الدعم الأمريكي لمبارك واضحًا، وهو ما حفّز الجماهير بالتحرير والشوارع أكثر.
وبجانب آخر، فإن نظام السيسي قد عمل على توطيد علاقاته الأمنية مع الشركاء الأوروبيين للغاية، وأكسبها أبعادًا أكثر استقلالية عن واشنطن بعكس نظام مبارك الذي اعتبرها مجرد امتداد طبيعي. ويظهر ذلك بدعم العسكري والأمني الفرنسي للترسانة المصرية، ومنحته هامشًا أكبر للمناورة باستخدام الصفقات بعدما أصبحت مصر ثالث أكبر مستورد للسلاح في عهده.
وإضافة للأوروبيين, فيلوح للأفق بوضوح محاولة السيسي ونظامه التحسب لأي صفعات أمريكية ومنح ساسياتهم قدرًا للمناورة أكبر باتجاهه لتحسين علاقته بالصين وروسيا، تأتي في مقدمتها صفقات عسكرية واقتصادية كبيرة في طفرة مشاريع العاصمة السيساوية الجديدة، وتعزيز تخزين جيشه للسلاح لنقطة غير مسبوقة. بالطبع ستمحو ممحاة بايدن أشياءً مهمة أنجزها قلم ترامب، لكن ومع كل محو ستظل هناك ثوابتًا لن يستطيع ساكن البيت الأبيض الجديد الاقتراب جوهريًا منها.