لا نَعرِف ما إذا كان اختيار يوم أمس الأربعاء موعد تنصيب الرئيس الأمريكيّ الجديد جو بايدن في البيت الأبيض لاستِئناف العُلاقات الدبلوماسيّة المِصريّة القطريّة بعد قطيعة استمرّت ثلاث سنوات كان مَحضُ الصّدفة أم أنّه مقصود، وأيًّا كانَ الحال، فإنّ هذه الخطوة التي تنطوي على دَرجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة، تَعكِس مرحلةً جديدةً من التّغيير في العلاقات البينيّة العربيّة تُؤشّر إلى وصول الأطراف المُتصارعة إلى حالةٍ من التّعب والإرهاق من نتائج القطيعة لما يترتّب عليها من آثارٍ سلبيّةٍ على الجميع دُون استِثناء.
نعترف أنّنا في هذه الصّحيفة فُوجِئنا بهذا الانفِراج المُتسارع في العلاقات المِصريّة القطريّة، بسبب عُمق الخِلافات بين الجانبين، والأضرار الجمّة التي نجمَت عن الحُروب الإعلاميّة الشّرسة التي تسبّبت بجُروحٍ غائرةٍ من الصّعب أن تندمل بسُهولةٍ، بعضها بدأ ينزف قبل الخِلاف الأخير الذي أدّى إلى المُقاطَعة والقَطيعة بسبب الأزمة الخليجيّة الأخيرة، وخاصّةً بسبب دعم السّلطات القطريّة سياسيًّا وإعلاميًّا للثّورة المِصريّة التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، وبعد ذلك لحُكم الإخوان المُسلمين.
وكالة “رويترز” العالميّة للأنباء كشفت عن بعض هذه التّفاهمات عندما ذكَرت في تقريرٍ لها نَقلًا عن مسؤولين اثنين في المُخابرات المِصريّة قولهما إنّ لقاءً سِرّيًّا تمّ بين مسؤول في وزارة الخارجيّة القطريّة تعهّد خِلاله لنُظرائه المِصريين والإماراتيين الذين التقى بهم بعد اجتماع قمّة “العُلا” الخليجيّة، بأنْ لا تتدخّل الدوحة في شُؤون مِصر الداخليّة، مثلما تعهّد أيضًا بتغيير توجّه قناة “الجزيرة” القطريّة، ووسائل إعلام قطريّة أُخرى تُجاه القاهرة، مُضافًا إلى ذلك، ونحن ننقل عن الوكالة، الاتّفاق على التّعاون في المجالات الاقتصاديّة والقضايا الإقليميّة خاصّةً في ليبيا وحركة الإخوان المُسلمين.
اللّافت أنّ هُناك حالةً من التَّكتُّم حول تفاصيل المُصالحة والعلاقات بين دولة قطر والدول الأربع المُقاطِعة لها، وكانت قمّة “العُلا” الحاضنة لها، فحتّى هذه اللّحظة لم يتم الكشف عن مضمون “وثيقة العُلا” التي جرى توقيعها من قبل رؤساء الوفود الذين شاركوا في القمّة المذكورة وكانت أساس هذه المُصالحة، والنّتائج التي ترتّبت أو ستترتّب عليها مِثل فتح الأجواء والحُدود، وإعادة فتح السّفارات، ووقف الحمَلات الإعلاميّة.
لا شكّ أنّ تعهّد المسؤولين القطريين لنُظرائهم المِصريين والإماراتيين بتغيير نهج قناة “الجزيرة” ووقف تدخّلها في الشّؤون الداخليّة المِصريّة وربّما الإماراتيّة والسعوديّة والبحرينيّة أيضًا، “تَطوّرٌ” قطريّ كبير، لأنّ ثلاثة أرباع الخِلاف، إن لم يكن كُلّه، تفجّر بسبب تناولها، أيّ “الجزيرة”، للشّؤون الداخليّة وتبنّي حركات المُعارضة في الدّول الأربع، وخاصّةً حركة “الإخوان المسلمين”.
هُناك عدّة أسئلة تطرح نفسها في هذا المِضمار أبرزها عن المُقابل الذي ستَحصُل عليه قطر بتغييرها لتوجّه مدفعيّتها الإعلاميّة الثّقيلة، قناة “الجزيرة” وأخواتها، وكذلك تخلّيها المُتوقّع عن حركات المُعارضة الخليجيّة، والمِصريّة، وخاصّةً حركة “الإخوان المسلمين” والأذرع الإعلاميّة التّابعة لها في تركيا ولندن والدّوحة نفسها؟ وأين سيذهب هؤلاء وأُسرهم ومحطّاتهم ومواقعهم الإعلاميّة؟ وهل سيتم إغلاق هذه الوسائل بالتّدريج؟
صحيح أنّ التّغيير في نهج “الجزيرة” بات واضِحًا من خلال “نغمة” ومضمون برامجها، ونشَراتها الإخباريّة، وحتّى في لهجة مُذيعيها، حيث غاب اسما الأمير محمد بن سلمان، والشيخ محمد بن زايد، اللّذان كانت أخبارهما، والبرامج المُتعلّقة بهما مِثل المُقرّرات المدرسيّة على مدى السّنوات الثّلاث الماضية، وجاءت الاضّطرابات المُتعلّقة بنقل السّلطة في أمريكا بمثابة “طوق النّجاة”، ولكنّ الصّحيح أيضًا أنّ هُناك حالةً من الحذر، بَل الحَرج، لصُعوبة الانتقال من قبل الطّاقم في المحطّة، من النّقيض إلى النّقيض، في فَترةٍ قصيرة.
توقّعنا أن تكون خطوة تطبيع العلاقات بين مِصر وقطر هي الأخيرة، وبعد السعوديّة والإمارات والبحرين باعتِبار الدّول الثّلاث الأخيرة أعضاء في مجلس التّعاون الخليجي، ولكن أن تكون مِصر الأولى فهذا تَطوّرٌ جاء عكس جميع التوقّعات، ويَعكِس رغبةً من الجانبين القطري والمِصري على تجاوز الخِلافات، وبدء صفحة جديدة.
لا ننسى في هذه العُجالة أنّ مُعظم الدّول الخليجيّة، إن لم يَكُن كلّها، تَقِف الآن أمام إدارة أمريكيّة جديدة بقِيادة الدّيمقراطي جو بادين، تضع مسألة الديمقراطيّة وحُقوق الإنسان على قمّة أولويّاتها، وعلى عكس إدارة الرئيس ترامب السّابقة، الأمر الذي يتطلّب تضامُنًا وتسوية خِلافات العلاقات الثّنائيّة تقليصًا للمشاكل والأزَمات.
نحن أمام مرحلة جديدة في العلاقات العربيّة البينيّة، حيث لم يَعُد الإعلام التّقليدي يلعب الدّور الأبرز في ظِل صحافة “السوشال ميديا” التي تحدّت كُل أشكال الرّقابة وكسَرت كُل المحظورات، الأمر الذي بات يُحَتِّم التَّطبُّع، مع هذا التّغيير المُهِم، وتأثير “الجزيرة” اليوم غير تأثيرها قبل عشرين عامًا.
السّؤال الأخير هو كم ستدوم هذه “الانفِراجة” والعلاقات والمُصالحة التي تَقِف خلفها؟ لا نقرأ الطّالع ولا نَضرِب في الرّمل، ولا نَملُك بلّورةً سحريّةً، ونَتْرُك الإجابة للمُستقبل، وما يُمكِن أن نختم به وباختِصارٍ شديد هو القول بأنّنا ندعم كُل مُصالحة بين الأشقّاء شريطة ألا تكون على حِساب المُواطن وحُقوقه وحُريّاته الأساسيّة.