الرئيس الأميركي الجديد يواجه معضلات كبرى في الداخل والخارج، ليس أقلها ما تركه ترامب من انفجارات مشتعلة في الشرق الأوسط، يعزّزها استمرار النيات العدوانية الإسرائيلية واتخاذها لغة التحريض المنتقل من إدارة ترامب إلى الإدارة الجديدة.
بعد استكماله ولاية رئاسية واحدة بالكاد وصل إلى نهايتها رئيساً، ترك دونالد ترامب البيت الأبيض عائداً إلى فلوريدا، من دون أن يشارك في حفل تنصيب الرئيس الجديد جو بايدن، مكتفياً برسالةٍ علق عليها بايدن بأنها “ودّية جداً”.
في الخارج مثلما في الداخل، لقد جعل ترامب أميركا أسوأ مما كانت عليه قبل 4 سنوات. إنها نتيجة تكاد تنال إجماعاً عالمياً، فقد تراجعت قدرة البلاد على قيادة العالم، بل ظهرت دلائل فشلها وعدم قدرتها على أداء هذا الدور، فضلاً عن بروز علامات التوتر على صورة الإمبراطورية ونفوذها. وكان ملف الشرق الأوسط واحداً من أبرز الملفات التي نشط ترامب في تخريبها، في محاولات حثيثة لاقتناص تنازلات تاريخية في لحظة واحدة، وفي أكثر القضايا حساسية وخطورة.
تركة ثقيلة في الشرق الأوسط
بدأ ترامب ولايته الرئاسية في الملف الشرق أوسطي بزيارته الشهيرة إلى الخليج وتوقيعه اتفاقيات تاريخية في المملكة العربية السعودية حصل بموجبها على أموال هائلة. لقد تعاطى بطريقة ابتزازية مع العاهل السعودي يومها ودعاه إلى دفع “جزية” للحصول على دعم واشنطن. وقد دفع الأخير كل ما استطاع دفعه للحفاظ على الحماية الأميركية.
بعدها، راكم ترامب سجلاً حافلاً من الإخفاقات الشرق أوسطية (إيران، لبنان، سوريا، اليمن). أدار سياسةً خارجية وتّرت علاقات بلاده تركيا (صواريخ الباتريوت، القواعد الأميركية، أس 400…) وانسحب من الاتفاق النووي الذي وقعه سلفه باراك أوباما مع إيران، إلى جانب الدول الخمس، وانتهج سياسة الضغوط القصوى ضد دول محور المقاومة وحركاتها، متجاوزاً الخطوط الحمر التاريخية في كثير من المواضع،
إذ أقدم على مراكمة الأسماء والكيانات في لوائح العقوبات، فضلاً عن ملء لوائح أخرى باغتيالات سياسية تفاخر بتنفيذها، كاغتيال الفريق سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما، وتغطية اغتيال العلماء الإيرانيين، والاعتداءات الإسرائيلية والاستفزازات المستمرة التي زعزعت الأمن والسلم الإقليميين، وجعلت العالم أكثر توتراً ودموية.
وفي الملف الفلسطيني، تجاوز ترامب كل المحاذير، وضرب توازنات الصراع بعرض الحائط، فأعطى “إسرائيل” ما لا تملكه بلاده، واعترف بالقدس عاصمة لها، ودعم الاستيطان، وتجاوز حل الدولتين الذي لطالما رعته بلاده، وأيد محاولة سرقة “إسرائيل” للجولان السوري المحتل، ليختتم ولايته باتفاقيات “أبراهام” التي رعى من خلالها انبطاح دول عربية أمام “إسرائيل” و”التفوق الاستراتيجي” في المنطقة، وهي التسمية الدارجة في السياسة الخارجية خلال ولاية ترامب، للقول إن واشنطن تريد تحكيم “إسرائيل” برقاب شعوب الشرق الأوسط ودوله.
إن هذه النتائج والوقائع يرثها بايدن اليوم بصفتها مشكلات تصعّب مهامه الخارجية. ربما يقول قائلٌ إن هذه النتائج قد تكون مفيدة لأميركا، لكن ذلك سيظل على الدوام عرضةً للنقد، وخصوصاً إذا ما قوبلت بوقائع معاكسة أفرزتها هذه السياسات، ففيما يخصّ سياسة الضغوط القصوى والاغتيالات التي أتت في سياقها، لم تتمكّن من وقف البرنامج النووي الإيراني، ولم تؤدِ إلى تقليص دور إيران وحلفائها في المنطقة، بل إنَّ هذا الدور يستمرّ بكامل حضوره مع رحيل ترامب عن البيت الأبيض.
وعلى مستوى الصراع العربي الإسرائيلي الذي تقلّص قطبه العربي ليقتصر على بضع دول معدودة وحركات مقاومة صامدة، فإن واشنطن خسرت مع ترامب مشروعيتها عند الفلسطينيين والإجماع على دورها كوسيط محايد، إذ أجمع جميع الفلسطينيين بعدم نزاهة الأميركيين أثناء تأديتهم هذا الدور. لقد انعدمت الثقة بأميركا كوسيط سلام.
خيارات بايدن
لقد أدَّت حماوة الصراع الذي خاضه الديموقراطيون، وفي مقدمتهم بايدن، مع ترامب ومشروعه إلى تزخيم نيات هؤلاء بإحداث تغيير عن سياساته. على الأقل، هذا هو الدافع النفسي والسياسي في اللحظة الراهنة. لا يعني ذلك أبداً أن هذه السياسات البديلة ستكون مختلفة جذرياً عما شهدته المنطقة خلال السنوات الأربع الفائتة. إنها شيءٌ بين شيئين؛ استغلال لمكامن المصلحة الأميركية في معطيات الأمر الواقع الذي فرضته إدارة ترامب من جهة، وتغيير في المسارات التي يرى الديموقراطيون أنها أساءت إلى مصلحة البلاد ودورها وصورتها وسمعتها والثقة بها من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن الشعار الذي رفعه بايدن في خطابه الأول كرئيس خلال حفل تنصيبه يشير إلى الداخل (أميركا الموحدة)، فإن ملف السياسة الخارجية في الشرق الأوسط لا بدّ من أنه سيأخذ حيزاً مهماً من اهتمامات الرئيس الجديد وإدارته.
ورغم أن الديموقراطيين يدركون تماماً أن الصراع في الشرق الأوسط لا يمكن حله بالقوة والإجبار، كما حاول ترامب قبلهم أن يفعل، بل ربما لا يمكن حلّه بصورةٍ عامة، فإن هؤلاء القادمين مجدداً إلى الرئاسة سيحاولون من دون شك صياغة السياسة التي تناسبهم في المنطقة.
إنَّ ملامح سياسة بايدن في الشرق الأوسط تشير إلى شبه ملحوظ بسياسات أوباما، أي أنها ستخرج من البعد الواحد الذي اتخذته سياسة ترامب، لتستعيد أبعادها ووسائلها المتنوعة. لا عصا العقوبات والحروب فقط، بل هي، إلى جانب عروضات المصلحة للخصوم، وجزرات المرونة السياسية، مع إبقاء استخدام أصوات محركات الطائرات والبوارج كخلفيةٍ موسيقية للمفاوضات.
هذه هي الطريقة الأميركية التقليدية عند الديموقراطيين، وهي ليست أقلّ عدوانية من أسلوب ترامب، إنما بتقنيات أكثر تنوعاً من المؤثرات البصرية وألعاب الخفة والاحتيال التي أبعدتها وقاحة ترامب عن المشهد والذاكرة القريبة.
في العلاقة مع إيران، كان بايدن قد أعلن أنه سيعود إلى الاتفاق النووي ويرفع العقوبات عنها إذا التزمت “بشكل صارم” بهذا الاتفاق. في المقابل، أعلنت إيران أنها ستلتزم بمندرجات الاتفاق لناحية الضوابط على التخصيب عندما ترفع واشنطن العقوبات عنها.
وبين الموقفين المتقابلين، تبرز ملامح نيات مشتركة بالرغبة في استعادة الاتفاق الذي توصل إليه الطرفان في العام 2015، واعتبر إنجازاً على جانبي المسألة، أي بالنسبة إلى رئاسة أوباما من ناحية، وإلى إدارة الملف عند الإيرانيين، الذين اعتبروا أنهم حققوا الأهداف التي أرادوها من التفاوض، وعلى رأسها حماية مشروع نووي سلمي.
لكن هذه النيات والرغبات لا تكفي لتحقيق العودة، فالظروف تبدّلت كثيراً خلال رئاسة ترامب. وعلى الرغم من الأجواء الإيجابية التي تبثها هذه النيات في سماء الأزمة، فإنَّها تستمر في إخفاء جوانب بالغة الخطورة في المشروع الذي يحمله بايدن إلى البيت الأبيض، إذ سيحاول توسعة الإطار الزمني للاتفاق ليصبح مستداماً، بعد أن يضيف إليه ضوابط للبرنامج الصاروخي الإيراني ولنفوذ إيران في المنطقة. إنها بالتحديد مطالب ترامب، مصاغةً بأسلوب دبلوماسيٍ مختلف، ومعتمدةً على الوقائع التي أحدثها ترامب نفسه في الإقليم.
وإلى جانب هذه الأهداف، وفي سبيلها، سيحافظ الرئيس الجديد وفق ما يستشف من تصريحاته وفريقه على كامل الوسائل التي يمكن الركون إليها لمحاولة التوصل إلى اتفاق يتناسب مع مطالبه، بما في ذلك التلويح بالحرب، وهذا ما تدركه إيران جيداً، لكن ما سيختلف بالضرورة هو استجابة الديموقراطيين للمعطيات الحقيقية في الميدان،
إذ أثبتت التجربة مع أوباما أن الديموقراطيين أكثر واقعية حين يتعلق الأمر بتقبلهم وقائع معاكسة لرغباتهم في السياسة الخارجية. وفي هذه النقطة تحديداً تتركز قوة الطرف المقابل الذي يراهن على إمساكه بالأرض، وبتحالف التاريخ مع الجغرافيا، وبصلابة النظرية التي تلحم المعطيين معاً لتشكّل عمق مشروع المقاومة، إذ ترى إيران في ذلك أبرز عوامل استدامة مشروعها في المنطقة.
وبعد قول ذلك، لن يكون مستغرباً أن يتوصل الطرفان إلى استعادة الاتفاق النووي، في ما لو سارت الأشهر المقبلة وفق سيناريو متفائل باعتدال. لقد اختار بايدن لوزارة الخارجية أنتوني بلينكن، الذي كان مستشاره للأمن القومي عندما كان نائباً للرئيس أوباما في العام 2008، ثم نائباً لوزير الخارجية في العام 2015 في الولاية الثانية لأوباما.
تصريحات بلينكن الأخيرة أمام الكونغرس تشير إلى اتجاهات متوقعة في السياسة الخارجية الجديدة. التصدي للتحديات العالمية مثل تغير المناخ وانتشار الأسلحة ووباء “كوفيد 19″، والعمل المشترك والشراكة، تعد كلها لغة وزارات الخارجية أينما كان.
نقطتان إيجابيتان حتى الآن في مقاربة بلينكن للقضايا الأكثر حساسية في المنطقة. في الأولى، تعهّد في جلسة المصادقة على تعيينه في الكونغرس “بإعادة النظر فوراً” في قرار وزير الخارجية المنتهية ولايته، مايك بومبيو، تصنيف حركة “أنصار الله” في اليمن “منظمة إرهابية”.
وقال خلال جلسة المصادقة على تعيينه في المنصب في مجلس الشيوخ: “سنقترح إعادة النظر فوراً بهذا القرار لضمان عدم إعاقة وصول المساعدات الإنسانية”. وأضاف أنَّ الإدارة الجديدة ستوقف دعمها للحملة التي تقودها المملكة العربية السعودية في اليمن، الذي “أصبح مكاناً لأسوأ أزمة إنسانية في العالم”.
وفي الثانية، تسجّل إيجابية عودة الإدارة الأميركية إلى إطار حل الدولتين، بحسب تصريحات وزير الخارجية المقبل، الذي قال إن بايدن يرى أن التسوية الوحيدة القابلة للاستمرار في ذلك النزاع هي “حل الدولتين”، لكن بلينكن لا ينسى أن يعيد ذلك (بحسب إيمانه وبايدن) إلى كونه “السبيل الوحيد لضمان مستقبل إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية”. في المحصّلة، يرى بلينكن أنّ بايدن سيعلن عودة الولايات المتحدة “المستعدة لقيادة العالم”.
تحريض إسرائيليّ
بالتوازي مع ذلك كلّه، يعيد الكيان الإسرائيلي دراسة خياراته، إذ سيجد صعوبات في تقبل إدارة أقل انحيازاً من إدارة ترامب. وعلى الرغم من تأكيد الديموقراطيين ومسؤولي الإدارة الجديدة أهمية مصالح “إسرائيل” في نظرتهم إلى المنطقة، يبدو الإسرائيليون اليوم مترقّبين لنشوب خلافات ناتجة من عدم التطابق في الرؤى بين الجانبين، فلم تعد تل أبيب تتقبل أقل من استخدام واشنطن بصورةٍ مباشرة لضرب طهران، وهذا ما تعذر على الأميركيين فعله على اختلاف إداراتهم.
من هنا، قالت صحيفة “إسرائيل اليوم” إنَّ جيش الاحتلال يعدّ ثلاثة خيارات لتقويض جهود إيران النووية أو التصدي لما وصفته بالعدوان الإيراني إذا لزم الأمر، وإنه سيطرحها قريباً على الحكومة. ونقلت عن وزير الحرب بيني غانتس قوله إنَّ “إسرائيل” تحتاج إلى خيار عسكري على الطاولة.
وفي سياقٍ موازٍ ومتناغم مع منطق الحكومة الإسرائيلية، نشرت منظمة الدفاع عن الديمقراطيات FDD””، وهي منظمة مقربة من اللوبي الصهيوني في أميركا، وتُركّز على الأمن القومي والسياسة الخارجية، بحثاً معمقاً حول السياسة الخارجية للرئيس دونالد ترمب خلال فترة ولايته السابقة في عدد من المناطق “الساخنة” حول العالم، ومنها لبنان. وقدم في ختام كل عنوانٍ من عناوينه مجموعة توصيات للرئيس الجديد، وذلك تحت عنوان: “من ترامب إلى بايدن، الطريق إلى الأمام، للأمن القومي الأميركي”.
وتضمّن البحث تحريضاً لبايدن على مواجهة إيران وحركات المقاومة، ولا سيّما “حزب الله” اللبناني، داعياً الإدارة الجديدة إلى عدم التعامل أو تمويل حكومة لبنانية يشارك فيها الحزب، إذ “سيجعل هذا الدعم الولايات المتحدة متواطئة حتماً، حيث يقوم حزب الله بصياغة وتحديد سياسة الحكومة اللبنانية، ولديه حقّ الوصول إلى ميزانيّتها”.
ويشير البحث إلى أنَّه لا ينبغي لواشنطن أن تستخدم العقوبات كأداة لتوجيه السياسات اللبنانية لبناء الدولة، فبدلاً من ذلك، يجب أن تهدف العقوبات إلى الضغط على شبكات “حزب الله المالية ونظام الأوليغارشية الفاسد الذي يُسهّل أعماله ويتشارك معه”، ويدعو إلى الاستمرار في الضغط على الاتحاد الأوروبي لتصنيف الحزب بجناحيه العسكري والسياسي كمنظمة إرهابية، وأيضاً الأخذ بعين الاعتبار بأن زيادة الاستثمار الفرنسي في لبنان من المُرجّح أن تزيد من معارضة باريس لمثل هذا التصنيف، فحزب الله نفسه يرفض تمييز الاتحاد الأوروبي بين ما يسمى بجناحيه “العسكري والسياسي”.
ويذهب البحث أبعد من ذلك إلى الدعوة لتعليق جميع المساعدات للجيش اللبناني، وعدم التّجديد لقوات الأمم لمتحدة العاملة في جنوب لبنان “اليونيفيل” التي تنتهي مهمتها في آب/أغسطس 2021، واستخدام الفيتو في سبيل ذلك، بل تدعو إلى عدم السماح باستمرار المحادثات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية بين الكيان الإسرائيلي ولبنان، وإعلان واشنطن أن مزارع شبعا ليست لبنانية، ولكنها جزء من مرتفعات الجولان التي يجب أن تبقى تحت السيادة الإسرائيلية، بحسب دعوة معدّي هذا البحث.
إنها دعوة لقيادة الشرق الأوسط إلى خرابٍ جديد، فهل تنتصر نيات الخروج من الخراب الذي أحدثه ترامب في المنطقة إلى فضاء اتفاق جديد أو يؤدي تحريض “إسرائيل” إلى جولة جديدة من الصراع؟