لملمة شظايا أمريكا المتناثرة
يتطلع الأمريكيون غدا، لطي صفحة أشد كابوس لأعنف إعصار، عصف بولاياتهم الخمسين، وهشم صورتها «الحضارية» المنفق عليها مئات المليارات من الدولارات على مر عقود، ويبدؤون لملمة شظاياها المتناثرة، في مهمة ترميم شظايا وستر عورات أمريكا، يقودها الرئيس الجديد جو بايدن.
سيسجل التاريخ، ولن ينسى، أن تاجرا صعد من سمسرة العقارات وطاولات القمار وحانات التعري إلى سدة رئاسة الإمبراطورية الأمريكية، وأسقط قناعها الخادع وأظهر أمريكا عارية، على حقيقتها دون أي مساحيق تجميلية أو أقنعة دبلوماسية ناعمة، برزت معها أنياب الوحش الأمريكي.
هذا الانكشاف الصادم للعالم، والمخزي لنحو 330 مليون أمريكي، أطلق العنان للعنصرية الأمريكية المقيتة، وعجرفة ساستها المستترة، لممارسة الغطرسة الأمريكية في أقبح صورها وأكثرها استعلاء وتكبرا، وإجراما وتجبرا، وبالطبع هوجا وقبحا، حدا يتجاوز الصفاقة إلى الوقاحة الفجة.
بدا الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، كثور هائج، يخور بلا حد ويرفس بلا صد، ولم يترك دولة منافسة للإمبراطورية الأمريكية، اقتصاديا أو عسكريا، ولا دولة مستقلة ترفض الخضوع للهيمنة الأمريكية، ولا دولة حرة تنشد التحرر من هذه الهيمنة، إلا ومد يد الإجرام إليها.
لم يقتصر هذا التوحش الأمريكي في ممارسة هواية الاستبداد والتسلط والنهب والحلب لثروات الشعوب، على حصار فنزويلا، وإعلان اللاءات الثلاث: «لا طعام، لا ماء، لا وقود»، وتمويل انقلاب على رئيس منتخب والمسارعة للاعتراف به، ولا على التنكيل بالمهاجرين واللاجئين إلى أمريكا.
وبجانب فرض عقوبات اقتصادية على الصين، المارد الصاعد بقوة وهدوء، لكسر هيمنة أمريكا على مقدرات واقتصادات العالم، أصدر ترامب قرار الانسحاب من اتفاق الملف النووي الإيراني، وأعلن سلسلة عقوبات أمريكية على إيران، شملت تقييد كل شيء استطاعت تقييده باستثناء الهواء!
غطرسة وتجبر «الكاوبوي» الأمريكي، امتدت إلى إشهار العنصرية العرقية والدينية، وإصدار قرار حظر الرحلات الجوية مع العديد من البلدان ذات الغالبية المسلمة، بزعم «حماية الأمريكيين من الإرهاب»، الذي ظلت السياسات الأمريكية منبعه وراعيه الأول على مر تاريخها، السائر باتجاه النهاية.
ترجم ترامب عمليا، رفض الولايات المتحدة الالتزام وحذفه فعليا من قاموسها، بوصفها من تلزم غيرها ولا تلتزم لأحد، وبجانب التلويح بالانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية، أصدر قرار الانسحاب من اتفاق باريس للتغير المناخي، الذي قال إنه «يفرض قيوداً مالية واقتصادية شديدة على أمريكا».
جسد ترامب وإدارته وعشرات الملايين من الناخبين الأمريكيين المؤيدين له والمتعصبين لسياساته، عقيدة الطاغوت، والتعامل مع العالم بوصف أمريكا إلها وربا، لا حد لسلطته ولا قيد لمشيئته، يجب أن يطاع ويعبد، ولا سلطة لأحد عليه، باعتباره هو القانون المطلق وفوق كل القوانين والشرائع والمواثيق.
لم يجد ترامب أي حرج في تعامله مع جميع دول العالم بما فيها دول أوروبا، ورفع شعار «الدفع مقابل الحماية»، ليس من أخطار حقيقية وقائمة تتهددها، بل من وبال البطش الأمريكي بها والتنكيل باقتصاداتها واستقرار مجتمعاتها وسلامة صحة مواطنيها، التي نسفها بإطلاق فايروس كورونا (كوفيد19).
بلغ التجبر الأمريكي ذروته، في الإشهار والانتشار، خلال سنوات ولاية ترامب الأربع، ولم يسلم من طغيانه وعدوانه أحد، بما فيها الدول الخاضعة والأنظمة الخانعة له خضوع وخنوع ملك اليمين، أهانها مرارا عبر تصريحات وتغريدات، مؤكدا أنها «لا شيء دون الحماية الأمريكية»، طالبا دفع المزيد من الإتاوات.
وصل الأمر بانكشاف العورة الأمريكية وسوءات لوبي إدارتها العميقة، إلى المجاهرة بدعم إشعال الحروب في العالم، ومنها الحرب الإجرامية على اليمن، واعتبارها وجرائمها بحق المدنيين «ضرورة لتشغيل مصانع السلاح الأمريكية وتوفير ملايين فرص العمل وإعانات عشرات الملايين من العاطلين عن العمل».
كذلك إصدار عشرات القرارات الخاصة بتصنيف كل دولة أو حزب أو حركة أو أشخاص، يتصدرون لرفض التكبر والتجبر الأمريكي والهيمنة والوصاية الأمريكية، على قائمة الإرهاب، وفرض عقوبات سياسية واقتصادية، تسعى جلها لإخراس صوت «لاء» على مستوى العالم، وإلغاء مجرد التفكير في الرفض للعبودية.
هذا الانكشاف العلني للانحطاط القيمي لدى النظام السياسي الأمريكي الرأسمالي بكل عقده البرجوازية الانتهازية والإقطاعية الاستعبادية، كان طبيعيا أن يطلق العنان لنزعة الإجرام لدى ملايين الأمريكيين العنصريين، لتتجاوز جرائم القتل للأمريكيين الأفارقة والمسلمين إلى اقتحام مبنى الكونجرس الأمريكي نفسه!
كان طبيعيا، حيال كل هذا وغيره الكثير مما لا يتسع المجال لحصره هنا، أن يقود لانهيار إمبراطورية الطغيان، الذي عبر عنه رئيس موظفي البيت الأبيض لإدارة الرئيس الجديد جو بايدن، رون كلاين، بقوله إن «الأزمات التي تعيشها البلاد تتطلّب تحرّكا عاجلاً» في سياق حديثه عن حزمة معالجات عاجلة سينفذها بايدن.
ويبقى الثابت مما سلف، أن ما شهدته الولايات المتحدة وما ستشهده، أظهر قِصر عمر الطغيان وحتمية زوال الباطل مهما طال وصال، وجسد أنموذجا حيا لجناية المترفين الفاسدين، ومصادقا عمليا لقوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً». (الإسراء: 16).
ابراهيم الحكيم