إنّ إستراتيجيّة التطبيع ليست وليدة اللحظة فـقد سبق لـ “إسرائيل ” إستغلال الفضاء الإعلامي لتوجيه رسائل إلى المحيط العربي والإسلامي، حيث تجلّى ذلك سابقاً في تجربتها الإذاعية بالعربية “راديو صوت إسرائيل من أورشليم (القدس)”.
ومع تطوّر تقنيات الإتصال الحديث ودخول حقبة التشبيك الإلكتروني والإعلام الرقمي، تظافرت جهود التطبيع إلى الفضاء الرقمي وتطبيقات التواصل الإجتماعي المُختلفة كما تقدّمت في مجال المحتوى الإعلامي من خلال المُتحدّثين والمواد التواصليّة المُتعدّدة.
كما نشأت عبر شبكات التواصل الاجتماعي حالة غير مسبوقة من التعامل المباشر بين أوساط من الجمهور العربي والمسؤولين الإسرائيليين إلى حدّ المعايشة الافتراضية بما يتخلّلها من تجاذبات ومحادثات وتعليقات متبادلة ونسج الأواصر في بعض الأحيان، ومن شواهد التطبيع الرقمي حضور ناطقي الإحتلال الإسرائيلي بالعربية على منصات التواصل الاجتماعي، حيث يتجلّى ذلك في حالة الناطق باسم الجيش الإسرائيلي “أفيخاي أدرعي” أو المعلِّق “إيدي كوهين” الذي يتمّ تقديمه على أنه “أستاذ” في جامعة بار إيلان في تل أبيب.
وبمعزل عن القدرة الإقناعية التي يحوزها هؤلاء المُتحدّثون فإنهم أصبحوا من “الُمؤثرين” ضمن المشهد الرقمي العربي خاصة بسبب أساليبهم في الظهور والتعبير التي تُثير التندّر والاستغراب في كثير من الأحيان، كما يتزايد في الفضاء الرقمي العربي تداول مقاطع ومواد ووصلات دعائية من إنتاج جهات رسمية إسرائيلية، غالباً في سياق إستهجانها أو التنديد بها، فالجمهور العربي يقوم بتدوير المحتويات المُنتجة صهيونيا وعلي سبيل المثال (مقاطع التهنئة بالمناسبات الإسلامية) التي يقوم بعض العرب بتداولها لإعتبارها مواد غرائبية وإستثنائية ذات طابع طريف أو مُستهجَن.
وهذا يُمكّن “إسرائيل” من فتح خط اتصال مباشر عبر وسائل التواصل الإجتماعي مع الشعوب العربية وهم إذا تفاعلوا مع هذه المنشورات فقد وقعوا لقمة سائغة في التطبيع الرقمي، وذلك ضمن استراتيجية الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية التي تسعى من خلالها لإقامة علاقات وديّة ومُقرّبة مع الُمتابعين العرب حتّى وإن كانت التعليقات مليئة بالكره والذم والشتائم أو السخرية، فلا يرونه سوى نوع من التفاعل والحوار وكسر للحاجز النفسي.
ومؤخراً ظهرت المزيد من الصفحات والحسابات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الأجهزة الذكية مُكرّسة للتطبيع الثقافي ومنها ذريعة تعليم اللغة العبرية، ومن خصوصيات هذه الصفحات والحسابات أنّها تستقطب بعضا من دارسي اللغة العبرية والمهتمين بها عربيا، بما يضعهم في صميم الحالة التطبيعية ويستعملهم في إذكاء هذه الصفحات والحسابات وإنعاشها مع تقديم الاحتلال من نافذة ثقافية تبدو ودِّية للغاية.
ومن جهةٍ أخرى يقوم غلاة التطبيع من دول عربية في الخليج الفارسي وعربية، بإسداء خدمات دعائية لـ”إسرائيل” عبر مساهماتهم في الشبكات وبعض المنصّات الإعلامية الإسرائيلية والخليجية ضمن عملية مُمنهجة مدعومة من “الذباب الإلكتروني”.
فإنّ هذه الأدوات تساهم في إعداد الشعوب العربية لتقبّل “إسرائيل” وشرعنة وجودها، وعلى هذا الأساس لا يهم ما يقوله المتفاعلون العرب مع الحسابات الإسرائيلية، بقدر ما يهم ظهورهم ومشاركتهم على تلك الحسابات أمام جمهور مفتوح، وشيئاً فشيئاً تُغيّب هذه الحالة مشاعر العداء تجاه الاحتلال الإسرائيلي، وتُقلّل من مشاعر التعاطف مع الشعب الفلسطيني من خلال تبرير جرائمها وعدوانها المستمر وطمس الرواية الفلسطينية وخلق حالة من التوازن بين الاحتلال والمحتل.