أظهر تحليل نشره باحث مصري أن مصـر انقلبت مؤخرا على دولة الإمارات في الموقف من أزمة ليبيا وتطوراتها.
جاء ذلك في تقدير موقف نشره طارق دياب الباحث السياسي المصـري المتخصص في العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط.
وجاء في التحليل: أخذ الموقف المصري من الأزمة الليبية منذ عام 2014، منحنىً أكثر تورطاً وانحيازاً إلى أحد أطراف الأزمة على حساب الآخر.
إذ دعمت مصـر قوات الشرق الليبي بقيادة الجنرال “خليفة حفتر” في مواجهة قوات الغرب.
وذلك قبل أن يحدث تحوُّل في هذا الموقف مؤخراً، عبر تبني سياسة الحياد الإيجابي، بإعادة ترميم مصر علاقاتها من جديد مع الغرب الليبي.
وكان أحد أبرز مؤشراته، إرسال مصر أول وفد رسمي لها إلى طرابلس منذ عام 2014، في 27 ديسمبر/كانون الأول الماضي، ولقاءه أعضاء من حكومة الوفاق.
لماذا حدث هذا التحول؟
هناك محددات عامة تحكم سلوك أي نظام حاكم لمصر في تعامله مع الملف الليبي.
أهمها محدد تصوُّر مصر لدورها الإقليمي في ليبيا كمنطقة عمق استراتيجي.
ومحدد الأمن القومي؛ نظراً إلى ما تمتلكه مصر من حدود شاسعة مع ليبيا بطول 1200كم، وهي حدود صحراوية وجبلية وعرة، تجعل المخاوف المصرية مبررة ومنطقية.
ومحددات اقتصادية تشمل ملفات الطاقة والعمالة المصرية وتحويلاتهم المالية والتبادلات التجارية وعقود إعادة الإعمار المرتقبة في ليبيا.
في المقابل، هناك محددات سياسية خاصة ارتبطت بالنظام المصري الحالي.
والظروف السياسية التي تشكل على أساسها هذا النظام، تتمثل في محاولة استنساخ نظام عسكري يحكم ليبيا بقيادة خليفة حفتر.
شبيه بنموذج السيسي في مصر من ناحية أولى، والمواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين وفروعها الإقليمية من ناحية ثانية.
وحملة الثورة المضادة الإقليمية من ناحية ثالثة.
وتكمن الإشكالية الكبرى التي وقع فيها النظام المصري في البداية، في إعطائه الأولوية للمحددات الخاصة التي ترتبط بمصلحة نظامه أن تتحكم في موقفه من الملف الليبي.
وذلك على حساب المحددات العامة التي ترتبط بمصلحة الدولة وأمنها القومي الحقيقي.
التحول في الموقف المصـري
تعد الأزمة الليبية أحد أهم الملفات الإقليمية التي ترتبط بالأمن القومي المصـري.
لكن الطريقة التي أدار بها النظام هذا الملف في البداية لم تحقق متطلبات هذا الأمن.
وذلك بسبب دعمه أحد الأطراف على حساب الطرف الآخر، وهو موقف لا يتناسب ومكانة مصر وموقعها الجغرافي.
إن سياسة الحياد الإيجابي، التي بدأ النظام المصري باتباعها مؤخراً هي الأنسب، والتي كان يجب أن يتبناها منذ البداية.
فبجانب روابطه القوية مع الشرق الليبي، بدأ النظام في إصلاح علاقاته مع الغرب الليبي مؤخراً وحكومة الوفاق.
زيارة الوفد المصـري
تقتضي سياسة الحياد الإيجابي من الدولة بناء روابط قوية مع طرفي الصراع أو النزاع.
ما يُمكِّن الدولة من لعب دور إيجابي في حل تلك النزاعات، بما يعود بالإيجاب على الجميع، سواء طرفي النزاع بحله.
أو الدولة التي تتبني تلك السياسة، من خلال امتلاك دور إقليمي فاعل، يعظّم من وزنها السياسي.
والحياد الإيجابي يتطلب عدم الانحياز لأحد الأطراف على حساب الآخر، فإنه لا يعني أيضاً الحياد السلبي، الذي تقف فيه الدولة على الحياد، دون نسج علاقات قوية مع الطرفين، ودون القيام بدور إيجابي فاعل في حل الأزمة.
إن سياسة الحياد الإيجابي كفيلة بتحقيق العديد من المصالح المصرية، فضلاً عن تحقيق متطلبات الأمن القومي المصري بمفهومة الأوسع، وليس بمفهومه الأمني الضيق، وتتمثل تلك المصالح في:
أولاً: ضمان المصالح الاقتصادية لمصر متمثلة في الاستثمارات والعمالة والنفط وإعادة الإعمار والتبادل التجاري بمناطق الغرب كما الشرق.
ثانياً: القدرة على لعب دور إقليمي فاعل، متمثلاً في الوساطة بين طرفي الأزمة، بما يعظّم من مكانة مصر الإقليمية.
ويمكِّنها من امتلاك ورقة ضغط في مواجهة العديد من الأطراف الدولية والإقليمية.
ثالثاً: حتى الأمن القومي بمفهومه الأمني والعسكري الضيق يمكن تحقيق متطلباته.
وذلك من ناحيتين: الأولى مع الإقرار بأنه من منظور الأمن القومي ومحدداته، يعد بناء روابط قوية مع الشرق الليبي بحكم عوامل الجغرافيا، له الأولوية على مناطق الغرب.
لكن الحياد الإيجابي لا يعني أن مصر ستفقد روابطها مع الشرق، بقدر موازنة لتلك العلاقة بروابط جيدة مع الشرق والغرب.
الناحية الثانية أنَّ تبنِّي هذه السياسة كان كفيلاً بالحيلولة دون تدخُّل مزيد من الأطراف الإقليمية والدولية في منطقة، تمثل عمقاً استراتيجياً لمصر.
دوافع تحوُّل الموقف المصـري
التحول الأخير بالموقف المصري ليس وليد اللحظة، فعلى ما يبدو كانت هناك رغبة بإحداث مثل هذا التحول منذ فترة.
فعلى الرغم من دعم مصر لحفتر، فإنها لم تكن متحمسة لاستراتيجيته العسكرية المبنية على اللعبة الصفرية.
في سبيل بسط سيطرته على الأراضي الليبية بالكامل، وضمنها العاصمة طرابلس.
والسبب على ما يبدو هو إدراك صانع القرار المصري أن تلك الاستراتيجية محتومة بالفشل، سواء لعدم واقعيتها ميدانياً.
أو لانعكاساتها الإنسانية والأمنية الكارثية على كل دول الجوار، أو لعدم سماح القوى الدولية بمثل هذا التطور.
وفي ظل دعم الإمارات لحفتر في معاركه الأخيرة لبسط سيطرته على طرابلس سعت مصر لإحداث توازن بين الطرفين.
فمن ناحية لم تكن القاهرة متحمسة، ومن ثم لم تتورط بشكل كبير في معارك حفتر الأخيرة على طرابلس.
حتى لا تزيد الفجوة بشكل أكبر مع الغرب الليبي.
كما لم تقْدم على خطوة التقارب مع حكومة الوفاق حتى لا تخسر حليفها الإماراتي.
ومن ثم فإن الدوافع التالية مثَّلت حافزاً لمصر لإحداث تحوُّل في موقفها من الأزمة الليبية في هذا التوقيت:
أولاً: التوازن العسكري بين الشرق والغرب
فقد ساهم التدخل التركي العسكري في الأزمة الليبية، مع تفعيل اتفاقية التعاون العسكري مع حكومة الوفاق في ديسمبر/كانون الأول 2019، في إحداث توازن عسكري على الأرض بين قوات الشرق والغرب الليبي.
حينما تمكنت قوات حكومة الوفاق من بسط سيطرتها على كل مناطق الغرب الليبي، وطرد قوات الشرق بقيادة حفتر حتى حدود سرت والجفرة وذلك بحلول يونيو/حزيران 2020.
ثانياً: الدور الدولي، وبالأخص الأمريكي الضاغط على الأطراف الإقليمية والمحلية، والداعم للحل السياسي للأزمة.
ثالثا: العامل الإماراتي، سواء من خلال دعمها المتواصل لإثيوبيا في قضية سد النهضة، وهي المسألة التي تمثل قضية مصيرية بالنسبة لمصر حكومةً وشعباً، أو من خلال تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
إذ أن التطبيع الإماراتي يأخذ شكل تحالف استراتيجي حقيقي، لن تتوقف انعكاساته فقط على الدور الإقليمي المصري.
خاصةً دور الوساطة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وتعاظم القوة الإسرائيلية بشكل يهدد موازين القوى الإقليمية.
بل يمتد أيضاً لمقومات قوة مصر الاستراتيجية، كقناة السويس، من خلال خلق مسارات بديلة للنفط الخليجي، عبر خط إيلات-عسقلان.
ولعل في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ما نقله موقع “مدى مصر” عن مصادر، بأن من بين أهداف زيارة الوفد المصري لطرابلس، رغبة مصر في “استباق مزيد من التحريض الإماراتي على مغامرة عسكرية”.
وبالتالي يبدو أن هناك قناعة بدأت تترسخ لدى صانع القرار المصري مؤخراً، بضرورة أن يكون هناك تباين وتمايز مع الإمارات.
وأن التطابق في كل ملفات الإقليم لم يعد ممكناً، خاصة مع النهج الذي باتت تسلكه الإمارات بشكل يؤثر سلباً على المصالح المصرية.
وهو أمر يقلل من الحاجة المصرية للدعم الإماراتي مقارنةً بالماضي، ويمثل دافعاً للنظام للتركيز على السياسة الخارجية.
ومحاولة إحياء دور إقليمي مصري فاعل في الإقليم، وهو ما يتطلب قدراً كبيراً من الاستقلالية في السياسة الخارجية المصرية أكثر من أي وقت مضى.