أثبتت الاحتجاجات السودانيّة في الذكرى الثانية لثورة الـ 19 من كانون الأول عام 2018م، أنّ السودانيين لا يمكن أن يخنعوا لإمرة حكومتهم التي خانت قضيّة فلسطين رغم الرفض الشعبيّ للتطبيع مع عدو العرب والمسلمين، في الوقت الذي يعيشون فيه أسوأ وضع اقتصاديّ نتيجة الفشل الحكوميّ في تحقيق مطالب ثورتهم كما يقولون.
مطالبٌ محقة
خرج السودانيون السبت المنصرم للمطالبة بتصحيح مسار ثورتهم وتحسين الأوضاع المعيشية الصعبة إضافة إلى رفض التطبيع مع العدو الصهيونيّ، بعد أن أعلنت وزارة الخارجيّة السودانيّة الموافقة على تطبيع علاقاتها مع تل أبيب في الـ 23 من تشرين الأول الفائت، وأصبح السودان البلد العربيّ الخامس الذي يوافق على تطبيع علاقاته مع تل أبيب، بعد مصر والأردن والإمارات والبحرين، وتلاه المغرب بأسابيع قليلة.
وزعم رئيس الوزراء السودانيّ عبد الله حمدوك، أنّ الحكومة ستوفي بمطالب الثورة، في الوقت الذي حاولت فيه قوات الأمن السودانيّة تفريق محتجين احتشدوا قرب القصر الرئاسيّ والبرلمان بالخرطوم، في حين أطلقت الشرطة السودانية قنابل الغاز لتفريق المتظاهرين الذين واصلوا احتشادهم ليلاً أمام القصر الرئاسيّ ومبني البرلمان بأم درمان.
ومع إصرار الحكومة السودانيّة على معارضة النسق الفكريّ والعقائديّ لشعبها، الشيء الذي يمكن أن يقلب الطاولة على رؤوسهم ويجر البلاد إلى نفق من العنف والتخريب، وخاصة بعد الزيارة الصهيونيّة إلى البلاد، عمت المظاهرات مدن وبلدات السودان، بينها حلفا الجديدة بولاية كسلا، والضعين بولاية شرق دارفور، وانقسمت مطالب المحتجين بين من يطالب بتحقيق مطالب الثورة الاقتصادية وتحسين ظروف المعيشة، ومن يدعو لإسقاط الحكومة الانتقالية المُطبعة، برئاسة عبد الله حمدوك.
بريق الرفض الشعبيّ
أعادت تلك الاحتجاجات بريق الرفض الشعبيّ السودانيّ لحكومته العميلة، وذكرتنا بالمظاهرات التي خرجت في ليلة الإعلان المشؤوم عن إعلان اتفاق العار بين تل أبيب والخرطوم، حيث خرج السودانيون في تظاهرات غاضبة وسط إحدى الشوارع الرئيسة في الخرطوم، احتجاجاً على الخيانة التي ارتكبتها حكومتهم، بتطبيع علاقاتها مع العدو الصهيونيّ، وانتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ وقتها، مقاطع مصورة بثها ناشطون، وجّه المتظاهرون فيها شعارات منددة بينها “اسمع اسمع يا برهان، لا تطبيع مع الكيان” ، كما رددوا: “لا تفاوض ولا سلام، ولا صلح مع الكيان” ، و “لا بنستسلم ولا بنلين.. نحن واقفين مع فلسطين”.
وفي هذه الأيام تتركز مطالب المحتجين بتحسين الوضع الاقتصادي المزري ومحاسبة رموز النظام السابق، ومحاسبة المسؤولين عن قتل المتظاهرين أثناء الثورة، ولا سيما خلال فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش في حزيران 2019م، إضافة إلى رفض التطبيع مع الكيان الغاصب.
يشار إلى أنّ الاحتجاجات الشعبية في السودان اندلعت في الـ 19 من كانون الأول عام 2018م، تنديداً بتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، حيث قامت قيادة الجيش السودانيّ بعزل عمر البشير من الرئاسة في الـ 11 من نيسان.
وما ينبغي ذكره أنّ الاتصالات السياسيّة والمجتمعيّة في السودان نجحت في وقت سابق بتشكيل جبهة ضد التطبيع مع الكيان الصهيونيّ الغاصب، حيث أعلنت أحزاب سياسيّة ومنظمات أهليّة وتكتلات إعلاميّة وشبابيّة وعلماء، تدشين ائتلاف “القوى الشعبية السودانية لمقاومة التطبيع مع الكيان الإسرائيليّ”، وأوضح ممثل الائتلاف، دفع الله السر حينها أنّه لا مصلحة للسودان في التطبيع مع المحتل الذي جاء لسرقة موارد البلاد.
وتؤكّد الجبهة المعاديّة للتطبيع أنّ القضيّة لها أبعاد سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، فيما تصر الحكومة السودانيّة على تصويرها بأنّها قضيّة قمح ووقود تأخذ منه القليل مقابل بيع القيم السودانيّة، مكررين الدعوة لكل القوى السياسيّة الحرة في السودان أن ترفض الدخول في حظيرة التطبيع الأمريكيّة، لأنه سينصّب على السودانيين دكتاتور لا يعترف بالحرية والديمقراطيّة، وفق تعبير القيادي بحزب المؤتمر الشعبيّ طارق بابكر، الذي أشار إلى أنّ السودانيين يقفون مع فلسطين بكامل أراضيها وعاصمتها مدينة القدس، ولا يعترفون بتقسيمها شرقيّة وغربيّة.
وفي الوقت الذي يصف فيه ميثاق جبهة “القوى الشعبيّة لمناهضة التطبيع مع الكيان الإسرائيليّ” التطبيع بأنّه محض صفقة مذلة معزولة تمت في الظلام، وتم استدراج السودان لها رغم أنفه، ينص على أنّ القضية الفلسطينيّة عادلة لشعب احتلت أرضه وانتهكت مقدساته، وأنّ حقوق الشعب الفلسطينيّ ظلت محل إجماع الشعوب الحرة والشرائع الإنسانيّة كافة، إضافة إلى أنّ التطبيع مع الكيان الصهيونيّ يحقق نصراً معنوياً وسياسياً لكيان محتل ظالم، وخذلاناً قاسياً لشعب مظلوم.
في النهاية، من المؤكّد أنّ الحكومة السودانيّة ستدفع ثمن غدر شعبها المنهك اقتصاديّاً رغم تصريحاتها المتكررة بأنّها لا تملك أيّ تفويض لاتخاذ القرار بشأن التطبيع مع العدو الصهيونيّ، بما يتعدى مهام استكمال عمليّة الانتقال وتحقيق الاستقرار والسلام في البلاد، وصولاً للقيام بانتخابات حرة، ورضخت لضغوط الإدارة الأمريكيّة التي خسرت الانتخابات، وارتكبت خطيئة يجمع الشعب السودانيّ على رفضها، ما خلق حالة من الغضب العارم في الأوساط السودانيّة، باعتبار أنّ حكومتهم (باعترافها) غير مخولة لتتخذ مثل هذا الإجراء مع كيان مغتصب وعنصريّ وطائفيّ.