المشهد اليمني الأول/
لعلّ ذلك المسار الذي انطلق فيه صاروخ «قدس 2» من اليمن، مستهدِفاً منشأة توزيع «أرامكو» في جدّة السعودية أمس، كفيل باختصار المشهد. لعله النقطة الحاسمة التي تتوضّح فيها الحدود: هُنا يقف الأخيار حفاة يصارعون الظلم، وهناك يجتمع الأشرار بين جدران القصور. لعلّ صدى ذلك الصاروخ سيظلّ يتردّد عميقاً في نفوس المظلومين، فيما نفي وزارة الخارجية السعودية للقاء الذي جرى بين ولي عهدها، محمد بن سلمان، ورئيس الوزراء و«الموساد» الإسرائيليَّين، بنيامين نتنياهو ويوسي كوهين، يبدو كذبة خارجة عن السياق التطبيعي الذي تسلكه الرياض منذ سنوات.
ليست العلاقات بين حكّام السعودية وإسرائيل وليدة اليوم بل من سنوات، لكن بمراجعة الأعوام القليلة الماضية يُلاحظ ازدياد في وتيرة التطبيع التدريجي، والذي قد لا يُختلف على أن نهايته الحتمية ستكون بتظهير حلف الرياض – تل أبيب إلى العلن، في إطار «اتفاق أبراهام» الذي سبق أن وَقّعت عليه إلى الآن دولتان خليجيتان هما الإمارات والبحرين. في عام 2017،
بدأ الحديث العلني عن محادثات سعودية – إسرائيلية لتدشين جسر جوّي بين الجانبين. وسبقت تلك التقارير بنحو شهر زيارة أجراها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى المنطقة، حيث طار من السعودية إلى إسرائيل مباشرة.
في الإطار ذاته
عرض وزير النقل والاستخبارات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، ما عُرف بخطة «سكة قطار السلام الإقليمي».
وهي سكّة قطار بري بدأ العمل عليها أخيراً، وتربط إسرائيل بالأردن، ومنه إلى السعودية ودول الخليج عبر شبكة سكك حديد تسمح للدول العربية بمنفذ إلى البحر المتوسط. واختصر كاتس خطّته بالقول إن «رؤيتي لربط السعودية ودول الخليج والأردن بميناء حيفا والبحر الأبيض المتوسط ستجعل إسرائيل مركزاً للنقل البحري وستُعزّز اقتصاد إسرائيل».
في العام نفسه، لقي تعيين محمد بن سلمان وليّاً للعهد ترحيباً إسرائيلياً رسمياً؛ إذ احتفى بذلك وزير التعاون الإقليمي السابق، أيوب قرا (حزب «الليكود»)، الذي رحّب في حديث مع صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» بتعيين ابن سلمان، معتبراً أن في ذلك «إشارة إلى مزيد من التعاون في الشرق الأوسط، وإلى فترة جديدة ومتفائلة بين السعودية ودول المنطقة، من ضمنها إسرائيل والشعب اليهودي».
كما التقى القرا، حسبما كشف في حينه، مسؤولين خليجيين بينهم سعوديون وإماراتيون وعمانيون وغيرهم خلال حفل تنصيب لنين مورينو، رئيساً للإكوادور. وبينما كان لسان المسؤولين السعوديين قد انبرى ينفي هذه الأنباء، لم يتمالك الرئيس السابق للاستخبارات السعودية، الأمير تركي الفيصل، نفسه، فأبى إلا أن يشارك في «الحفلة» عبر مقابلة مع القناة الأولى الإسرائيلية («كان»)، نافياً كلّ «ما يثار عن التقارب السعودي الإسرائيلي، وإمكانيّة التطبيع خارج مبادرة السلام العربية»!
في عام 2018 أعلن ابن سلمان أن هناك الكثير من المصالح التي تتقاسمها السعودية وإسرائيل
في عام 2018، خرج ابن سلمان بنفسه ليعلن في حوار مع مجلة «ذي أتلانتيك» الأميركية أن «إسرائيل تملك اقتصاداً كبيراً مقارنة بحجمها، وهذا الاقتصاد متنام، وبالطبع هناك الكثير من المصالح التي نتقاسمها مع إسرائيل».
ونفى في المقابلة ذاتها أن يكون لبلاده أيّ «اعتراض ديني على وجود إسرائيل»، مؤكداً تأييده «حق اليهود للعيش على أرضهم بسلام». وبينما كان ولي العهد في زيارته للولايات المتحدة، التقى بالملياردير الإسرائيلي، حاييم سابان، من أجل بحث عدد من المشاريع الفنية والثقافية التي سيستثمر فيها الأخير في الرياض. والملياردير الإسرائيلي، ليس مجرد رجل أعمال؛ إذ بحسب ما كشفت مجلة «كالكيلست» الاقتصادية الإسرائيلية، فهو يُعدّ أكبر المتبرّعين للجيش الإسرائيلي.
مع تكرار الحوادث التطبيعية، برز عام 2019 بصفته عاماً شهد زيادة ملحوظة في وتيرة التطبيع. ففي هذا العام، التقى المُدوّن والإعلامي السعودي، محمد سعود، نتنياهو، وذلك بعدما لبّى الأول دعوة وجهتها وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى عدد من الصحافيين العرب لزيارة تل أبيب. بعد هذا بوقت قصير، انضمّت الكاتبة والإعلامية السعودية، سكينة المشيخص، إلى زميلها سعود، بأن أجرت مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية، نفت خلالها «وجود عداوة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية»، معربةً عن استعدادها «لزيارة إسرائيل».
أمّا على المستوى العسكري، فقد شاركت السعودية ومعها الإمارات في مناورات وتدريبات عسكرية إلى جانب إسرائيل، كان آخرها في اليونان. والدولتان الخليجيتان هما أيضاً جزء، إلى جانب البحرين وإسرائيل وعدد من الدول الغربية، في «التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية وضمان سلامة الممرات البحرية»، الذي أنشأته الولايات المتحدة لحماية السفن التجارية، وانضمّت إليه دول خليجية تحت حجّة «التهديد الإيراني».
وعلى المستوى الرسمي، طالب برلمانيون سعوديون وإماراتيون ومصريون، خلال الاجتماع الـ29 لـ«الاتحاد البرلماني العربي» الذي انعقد في عمّان، بإزالة الفقرة المتعلقة بوقف التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
وفي وقت لاحق من العام نفسه، أعلن الأمين العام لـ«رابطة العالم الإسلامي»، السعودي محمد العيسى، أن وفداً إسرائيلياً سيزور السعودية في العام المقبل تحت عنوان «إدانة الجرائم النازية بحقّ اليهود». وخلال العام نفسه، استقبل ابن سلمان وفداً إنجيلياً أميركياً داعماً لإسرائيل، برئاسة الكاتب الإسرائيلي جويل روزنبرغ، في الرياض.
مطلع العام الحالي، بَثّت قناة « i24 News» الإسرائيلية فعّاليات «هيئة الترفيه» في جدة، وكانت تلك المرّة الأولى التي يتمّ فيها السماح لوسيلة إعلام إسرائيلية بتغطية حدث داخل الأراضي السعودية. بعد ذلك بنحو شهر، أعلنت إسرائيل رسمياً سماحها للإسرائيليين بزيارة السعودية، ثم استضاف الملك السعودي، سلمان بن عبد العزيز، الحاخام المقيم في القدس المحتلة، ديفيد روزن، في قصره الملكي في الرياض ضمن وفد «الحوار بين الأديان».
في شهر أيار الأخير، وخلال أيام الصوم، عرضت مجموعة «أم بي سي» السعودية مسلسلَي «أم هارون» و«مخرج 7» اللذين روّجا بشكل صريح للتطبيع مع إسرائيل، وقد لاقيا دعوات كثيرة للمقاطعة بسبب ذلك. وفي نهاية أيلول الفائت، فتحت السعودية سماءها رسمياً لمرور الطائرات الإسرائيلية، لتُدشّن الخطوط الوطنية الإسرائيلية (إل- عال) أولى رحلاتها إلى أبو ظبي عبر خطّ تل أبيب – الرياض مباشرة.
جريدة الأخبار اللبنانية