المشهد اليمني الأول/
هل علمت حركة أنصار الله اليمنيّة مسبقاً بزيارة نتنياهو (السرّية) إلى المملكة العربية السعودية، بحضور وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو، والتي كُشف النقاب عنها بالتزامن مع إطلاق الصاروخ تقريباً،
فعمدت إلى توجيه رسالة صاروخية نوعية عسكرية بعنوان «قدس 2»، وبأبعاد استراتيجية مهمّة تتخطّى المعركة المفتوحة منذ 6 سنوات تقريباً بين أبناء اليمن المقاومين وتحالف العدوان على اليمن، لتصل إلى الصّراع التاريخيّ الاستراتيجيّ مع الكيان الصهيوني حول مفهوم «القدس» المحتلة ومعناها وقيمتها في هذا الصّراع؟
البعد العسكري
تم تنفيذ استهداف أرامكـو بواسطة صاروخ «قدس 2» المجنّح، وهو من ضمن تشكيلة صاروخية جديدة تعمل عليها القوة الصاروخية اليمنية منذ فترة طويلة واكبت تقريباً الحرب على اليمن، منذ أن اتّخذت قراراً بالسير في خلق معادلة ردع صاروخية بدأت مع صواريخ قريبة المدى، تم استعمالها في المواجهات الداخلية الميدانية في بداية الحرب على اليمن،
لتكون حاسمة ومساعدة بدرجة كبيرة للثبات في الميدان على جبهات تعز والبيضاء والحديدة في مرحلة أولى، وللانتقال في مرحلة ثانية إلى الهجوم، بعد نقل المعركة نحو مناطق سيطرة تحالف العدوان على المحافظات الحدودية الثلاث: نجران وجازان وعسير.
يشكل «قدس 2» المجنح عنصراً حديثاً في المنظومة النوعية من منظومة الصواريخ الباليستية والمجنحة التي طورتها القوة الصاروخية للجيش واللجان الشعبية اليمنية وأنصار الله، والتي خلقت فيها معادلة الردع الصاروخي.
وبحسب المتحدث العسكري اليمني، العميد يحيى سريع، فهو صاروخ جديد تمت تجربته أكثر من مرة داخل العمق السعودي. وقد نجحت هذه التجربة كما يبدو واضحاً من فعالية الاستهداف للمنشأة النفطية في جدة، إذ تفيد المعلومات بإحداثه دماراً كبيراً وخسائر ضخمة، بعد أن استهدف وسط الهدف المحدد.
فعالية صاروخ «قدس 2» ترتبط أساساً بقدرات الصواريخ المجنحة، والمتمثلة بمسيره أو بطيرانه على ارتفاعات منخفضة، الأمر الذي يخفف من فعالية المنظومات الصاروخية المضادة له، إذ لا تعمل الرادارات بفعالية ضد الأهداف المتحركة على علو منخفض. ويتميز «قدس 2»، بكونه من فصيلة الصواريخ المجنحة، بقدرة ذاتية على التأقلم مع تغيرات حركة الأرض.
اللافت أيضاً في هذا الاستهداف الناجح من الناحية التقنية العسكرية، أن صاروخ «قدس 2» تجاوز عدة طبقات من منظومات الدفاع الجوي الصاروخية المتطورة، مثل «باتريوت باك 3» الحديثة أو منظومات «ثاد» الأميركية الأكثر تطوراً، والتي استحصلت عليها السعودية مؤخراً. ومن الطبيعي أنها نشرتها لحماية المنشآت الحيوية،
مثل «أرامكـو» في جدة على البحر الأحمر، كما أن من المفترض أن تكون هذه المنظومات الدفاعية جاهزة ومتأهبة لملاحقة الصواريخ اليمنية، التي كان واضحاً ومؤكّداً أنها سوف تتابع معركتها الاستراتيجية الصاروخية ضدّ المملكة التي تقود تحالف العدوان على اليمن ما دام هذا العدوان مستمراً.
من جهة أخرى، أن تصل صواريخ اليمن المجنّحة إلى وسط الساحل الغربي للسعودية على البحر الأحمر، فهذا يعني أن جميع المنشآت الحيوية للأخيرة ستكون معرضة للاستهداف، إذ إننا نتكلم عن استهداف «أرامكـو» في جدة، وعلى بعد يناهز 900 كلم تقريباً عن حدود اليمن الشمالية.
البعد الاستراتيجي
لا يمكن عزل زيارة نتنياهو السرية السريعة إلى المملكة العربية السعودية عن التوتر القائم حالياً في المنطقة ضد محور المقاومة، والذي خلقه الرئيس ترامب على خلفيات عدة، منها تهديده غير الخفي بعمل عسكري ضد إيران، ومنها ما هو مرتبط بانتقام جنوني لخسارته الانتخابات أمام جو بايدن، وذلك عبر خلق مناورة غير مدروسة لإغراق الإدارة الجديدة في مستنقع من التوتر الحساس في منطقة الشرق الأوسط، بشكل يمنعها من الانصراف لإعادة النظر في قرار الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وترتيب الموقف الأميركي في المنطقة،
ومنها أيضاً ما يرتبط بخوف حلفاء واشنطن، وفي مقدمتهم «إسرائيل» والسعودية، من التغيير المرتقب في جهوزية الوحدات الأميركية، بعد سحب نسبة غير بسيطة من الوحدات الأميركية، الأمر الذي اعتبره هؤلاء الحلفاء ثغرة قد تؤثر في أمنهم بشكل أو بآخر.
من هنا، جاء البعد الاستراتيجي والأهمية الحساسة لاستهداف اليمنيين «أرامكـو » – جدة بصاروخ «قدس 2» المجنح، بمدى يتجاوز، بحسب المعطيات، 900 كلم أوصلته إلى جدة، مع إمكانية وصوله إلى الحدود الجنوبية الشرقية لفلسطين المحتلة، وكأن الرسالة اليمنية المتعددة الأبعاد من هذا الصاروخ، يمكن تحديدها بالتالي:
– مسار الردع الصّاروخي الاستراتيجي متواصل ضد دول العدوان على اليمن، وفي مقدمتها السعودية. تطور هذا المسار واضح وثابت، من ناحية القدرات الصاروخية التي تثبت نفسها عند كل استهداف بعيد المدى في المميزات التقنية والفنية والتدميرية، ومن ناحية اختيار أهداف حساسة وحيوية، تتصاعد أهميتها العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية بين كل استهداف وآخر بشكل واضح أيضاً.
– لا يمكن بعد اليوم، وبالنسبة إلى اليمنيين، فصل «إسرائيل» عن السعودية في الاشتراك بالعدوان على اليمن، وبالتالي، لا يمكن تحييد «إسرائيل» من المواجهة ضدّ هذا العدوان. وحيث إنَّ الانخراط الإسرائيلي في هذا العدوان ليس جديداً، استناداً إلى معطيات كثيرة تناولت المساعدة الصهيونية لوحدات التحالف في الحرب على اليمن، وخصوصاً الاستعلامية والإلكترونية والجوية، فإنَّ صاروخ «قدس 2» المجنح سيكون باكورة الصواريخ المجنّحة اليمنيّة التي سوف تكون أهدافها بعد اليوم أبعد من جدة ببعض مئات من الكيلومترات، وتماماً في الاتجاه نفسه (شمال غرب)، وصولاً إلى أراضي فلسطين المحتلة.
«قدس 2» يقلب المعادلات في الخليج
ليس جديدًا ما قامت به القوة الصاروخية اليمنية من استهداف لمحطة توزيع لشركة «أرامكـو » في جدة صباح أمس الأول، فمسار الاستهداف اليمني لمواقع ومنشآت سعودية متواصل، بالصواريخ الباليستية أو بالطيران المسير، وهذا المسار قائم وثابت طالما العدوان على اليمن مفتوح، وطالما تقود السعودية هذا العدوان، وحيث حتى الآن لا تسهل المملكة أي حل سياسي، ولا تعطي المجال لأية تسوية، فإن معادلة الردع الاستراتيجي التي تفرضها وحدات الجيش واللجان الشعبية وأنصار الله باقية وثابتة وتتطور يوما بعد يوم.
الجديد في هذا الاستهداف اليوم، والذي نُفِّذَ بصاروخ مجنح قدس 2، أنه يتزامن مع حركة ميدانية لافتة في الداخل اليمني، تمثلت بسيطرة وحدات الجيش واللجان الشعبية اليمنية وأنصار الله مؤخراً، على معسكر ماس الاستراتيجي، المتاخم لمدينة مارب في الوسط الشرقي لليمن. وفي ما يشكل هذا التزامن في المناورتين (الميدانية داخل اليمن والصاروخية في عمق المملكة السعودية) بعدًا متقدمًا في مواجهة تحالف العدوان، كيف يمكن فهم أبعاد هاتين المناورتين؟ وماذا تقدمان لمعركة الدفاع عن اليمن؟
المناورة الصاروخية
أولًا: حصل الاستهداف بصاروخ «قدس 2» المجنح، وبحسب المعطيات الأولية التي ذكرتها المصادر اليمنية المعنية، هو صاروخ جديد، تمت تجربته أكثر من مرة داخل العمق السعودي، ونجاح هذه التجربة واضح من الاستهداف الفعال للمنشآت النفطية في جدة، حيث تجمع المعطيات على حصول خسائر ضخمة نتيجة سقوطه في وسط الهدف المحدد.
هذه الفعالية للصاروخ «قدس 2»، والمتعلقة أساسًا بمميزات الصواريخ المجنحة، تتمثل بانطلاقه على ارتفاعات منخفضة، وبقدرة ذاتية على التأقلم مع تغييرات حركة الأرض، إضافة لميزة القدرة على تجاوز منظومات الدفاع الجوي المعادية، والتي إجمالاً تكون أكثر فعالية ضد الأهداف الطائرة المتحركة على ارتفاعات عالية وليس منخفضة.
الأمر الذي يمكن استنتاجه، هو أن الصاروخ «قدس 2» قد تجاوز عدة طبقات من منظومات الدفاع الجوي، من المفترض أن تكون مستنفرة، بسبب حساسية وأهمية وحيوية جميع المنشآت السعودية على البحر الأحمر، وأيضًا كون المعركة الاستراتيجية اليمنية بالصواريخ وبالطيران المسير مفتوحة ولم تتوقف.
ثانيًا: نتكلم عن استهداف منشأة حيوية نفطية لشركة «أرامكـو » في جدة، وعلى بعد يفوق الـ850 كلم تقريبًا عن اليمن، حيث يبقى تحديد المسافة بدقة، مرتبطًا بمكان تركيز قاعدة الإطلاق داخل الأراضي اليمنية، الأمر الذي يضع قسمًا كبيرًا وواسعًا من الساحل الغربي للمملكة على البحر الأحمر تحت مرمى الصواريخ اليمنية، الباليستية التقليدية أو الباليستية المجنحة،
مما يعني أن المنشآت الحيوية السعودية، النفطية وغير النفطية، والتي هي إجمالًا بأغلبها تتركز على البحر الأحمر، معرضة للاستهداف، وبالتالي مهددة بالتوقف عن العمل على الأقل، اذا لم نتكلم عن الخسائر في الأرواح وفي المنشآت بحد ذاتها.
المناورة الميدانية داخل اليمن
من جهة أخرى، بالإضافة إلى استهداف احدى منشآت «أرامكـو » في جدة بصاروخ «قدس 2» المجنح، مع ما يعنيه ذلك من بعد عسكري تقني يتعلق بنوعية ومميزات وقدرة الصاروخ المذكور، أو من بعد نوعي مرتبط بتواصل مسار الاستهداف الاستراتيجي، فقد جاء التحرك الميداني الأخير للجيش واللجان الشعبية و«انصار الله» في شمال غرب مدينة مأرب، ليمثل نقطة مفصلية مهمة جدًا في تغيير مسار الحرب على اليمن، وذلك على الشكل التالي:
أولًا، يمثل معسكر ماس المُسيطر عليه، نقطة دفاعية قوية عن مدينة مأرب، وطالما كانت الوحدات المنتشرة فيه، تؤمن أغلب هذه المناورات الدفاعية عن المدينة المذكورة، وبعد سقوطه، فقدَ تحالف العدوان عنصرًا رئيسًا في المدافعة عن مارب، والتي أصبحت مهددة بالسقوط أيضًا وبنسبة كبيرة.
ثانيًا: لم يكن معسكر ماس يمثل فقط نقطة دفاعية لمدينة مارب، بل كان يشكل قاعدة تجمع كبيرة لوحدات المرتزقة والعدوان، جاهزة أو مناسبة لتنفيذ عدة عمليات هجومية، بهدف محاولة استعادة ما خسرته في الجوف ومفرق الجوف ونهم وصرواح، أو في محاولة إعادة شن حملة هجومية للتقدم نحو صنعاء، وبخسارة هذا المعسكر، خسر التحالف أية فرصة مستقبلية ممكنة للتفكير بعملية هجومية من جديد نحو الغرب باتجاه صنعاء أو محيطها.
من هنا، واذا أضفنا إلى مناورة السيطرة على معسكر ما، والتي تقرِّب أكثر فأكثر إمكانية السيطرة على مدينة مارب، وبالتالي تؤسس لتغيير ميداني كبير في معركة الدفاع الداخلية عن اليمن، مع المناورة الصاروخية في استهداف أرامكو في جدة على البحر الأحمر، بما تحمله من بعد نوعي،
وأيضًا مع المسار المتواصل والثابت والمتطور للقدرات اليمنية النوعية، الصاروخية والمسيرة، فإننا أصبحنا نتكلم عن وصول الجيش واللجان الشعبية و«انصار الله» إلى مستوى متقدم جدًا على صعيد المعركة الاستراتيجية، تخطى الموقف الدفاعي، ليكون وبكامل الإمكانيات المختلفة تكتيكيًا ونوعيًا واستراتيجيًا، موقفًا هجوميًا، قادرًا على قلب المعادلات في الخليج بشكل واضح.
_______
تقرير: شارل أبي نادر – عميد متقاعد في الجيش اللبناني