المشهد اليمني الأول/
من الصّعوبة أن ترفع واشنطن يدها كلياً عن الشرق الأوسط، لكن من غير المستبعد أن نشهد نوعاً من تراجع عسكري، يتمثّل بسحب بعض وحداتها من كل من أفغانستان والعراق، وربما من سوريا أيضاً.
مع الصراخ الذي يطلقه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في رفضه الاعتراف بنتائج الانتخابات، من المستحيل بقاؤه في البيت الأبيض بعد العشرين من كانون الثاني/يناير 2021، إذ أصبح واضحاً أن حملته الانتخابية والقضائية التي تجهد لإثبات ما يلزم من المعطيات القانونية أو الإدارية لإلغاء فوز جو بايدن فشلت، وهي تخسر كلّ يوم ملفاً من ملفات الطعن في الولايات المتأرجحة النّتائج، ولم يتبقّ إلا أن يعترف بما أصبح مؤكداً للقسم الأكبر من الجمهوريين، وهو خسارته وفوز جو بايدن.
انطلاقاً من ذلك، وحيث تتشعَّب الملفّات الدوليّة التي تنتظر بدء مرحلة أميركية جديدة مختلفة عن مرحلة ترامب، يبقى ملف الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، دبلوماسياً وعسكرياً، من أكثر الملفات الحسّاسة التي تنتظر تغييراً أو تحريكاً، وحيث من الصّعوبة أن ترفع واشنطن يدها دبلوماسياً أو سياسياً عن المنطقة، فمن غير المستبعد أن نشهد نوعاً من تراجعها العسكري، المتمثّل بسحب بعض وحداتها من كل من أفغانستان والعراق، وربما من سوريا أيضاً.
إن ما يؤشّر إلى هذا التوجّه (الانسحاب) هو تصريحات وزير الدفاع الأميركي الجديد كريستوفر ميلر، بتوجيهات من الرئيس ترامب طبعاً، والذي يجد في ملف الانسحاب العسكري من بعض المناطق حول العالم بعض التعويض عن فشله في أغلب الملفات الدولية، إضافةً إلى أنه يجد فيه ورطة مستقبلية لبايدن، إذ تجمع أغلب الآراء القريبة من الديموقراطيين، ومن الجمهوريين أيضاً، على أن هذا الانسحاب سيكون له تأثير سلبي في الأمن القومي الأميركي، ما قد يستدعي إعادة نشر الوحدات المنسحبة، مع ما لذلك من صعوبات لوجستية وضغوط معنوية سيعاني منها أولاً الرئيس المستقبلي جو بايدن.
في الواقع، وحيث تتعدّد وتتداخل المعطيات والمصالح الدولية في الدول الثلاث المذكورة (أفغانستان والعراق وسوريا)، يبقى الملف السوري الأكثر تعقيداً، ويبقى الانسحاب الأميركي من الأراضي السورية شرق الفرات الأكثر حساسية، وذلك لارتباطه بالتواجد الأجنبي المتعدد في سوريا، إن كان على شكل دعم ومساندة، كوجود الروس والإيرانيين وفصائل محور المقاومة، أو على شكل احتلال، كوجود الأميركيين والأتراك.
ونظراً إلى عدم وجود مشكلة بالنسبة إلى التّواجد الروسيّ وتواجد مجموعات محور المقاومة في سوريا، إذ يرتبط هذا التواجد أو الانسحاب بطلب من الحكومة السورية، فإن الإشكالية تبقى حول الاحتلالين الأميركي والتركي، فكيف يمكن التوفيق بين انسحاب الوحدات الأميركية من سوريا، في حال حصوله، وبقاء الوحدات التركية المحتلة فيها، وذلك في ظل المعارضة الشرسة من قبل الدولة السورية لهذا الاحتلال أو في ظل العداء الدموي بين الأتراك والوحدات الكردية السورية؟ وما دور روسيا في هذا الاحتلال التركي، مع ما يحمله على جناحه من تواجد إرهابي ترى فيه موسكو خطراً كبيراً يستدعي المعالجة، بعد أن حاربته بقوة في سوريا وروسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي؟
في الواقع، لا ينكر أحد أنّ هناك حساباً مفتوحاً بين الروس والأتراك تاريخياً في الكثير من المحطات والمواجهات، وحاضراً في ملفات متعددة، ومنها في جنوب القوقاز وناغورنو كاراباخ بالتحديد، ومنها، وهو الأهم، في سوريا. ومن الطبيعي أن ترى موسكو أن الوقت حان الآن لكي تأخذ من تركيا ما تعهدت به الأخيرة في جميع الاتفاقات معها، في سوتشي وأستانة وموسكو، لناحية إنهاء الحالة المسلحة الإرهابية في شمال سوريا وشرقها.
ومع صعوبة الأمر بالنسبة إلى تركيا، إذ كانت وما زالت – ويبدو أنها لن تتوقف مستقبلاً – تستعمل وتستغل تلك المجموعات لتنفيذ أجندة خارجية، ونموذج ليبيا وناغورنو كاراباخ خير دليل على ذلك، فمن المنطقي أن يستدعي ذلك موقفاً روسياً معارضاً للاحتلال التركي في سوريا.
من جهة أخرى، لن تعارض واشنطن تواجداً روسياً أوسع في شرق الفرات. أولاً، لكي يحلّ محل الوحدات التركية التي سوف تصطدم حكماً مع الكرد السوريين لو بقيت منتشرة، والذين، كما يبدو، يملكون تأييداً معقولاً من الرئيس المنتخب جو بايدن. ثانياً، ستفضل واشنطن وجوداً روسياً فاعلاً في شمال سوريا وشرقها، تعتقد أنه قد يخفف أو يضعف التواجد الإيراني المباشر أو غير المباشر عبر فصائل محور المقاومة.
من جهة أخرى، سوف يفضّل الاتحاد الأوروبي أيضاً، وخصوصاً فرنسا، التواجد الروسي الواسع في سوريا، وسيدعمه أيضاً، كبديل لانسحاب تركي كامل من الأخيرة، على الأقل لانتزاع ورقة ضغط اللاجئين السوريين إلى أوروبا من يد تركيا.
أيضاً، لن تستطع تركيا معارضة تواجد وانتشار روسي أوسع في شمال سوريا وشرقها، لكونها، في حال أصرّت على احتلالها أراضي سورية، تناقض في ذلك وجهة نظرها التي أصرّت عليها في ناغورنو كاراباخ بالنسبة إلى حق أذربيجان في أراضي الإقليم المذكور.
انطلاقاً من كلّ ذلك، هل نشهد بالتوازي تقريباً مع انسحاب أميركي من سوريا انسحاباً تركياً من الأخيرة، بالتزامن مع زيادة الانتشار البري الروسي على شكل وحدات شرطة وقوى أمن ومفارز مراقبة وفصل تؤمن عودة الإدارة السورية، مع تواجد عسكري سوري محدّد يكون مرتبطاً بتواجد روسي داعم وضامن للمصالح الدولية، والتي سوف يُفرض الانسحاب التركي على أساسها مباشرة بعد الانسحاب الأميركي من سوريا أو قبله؟
_____
شارل أبي نادر