المشهد اليمني الأول/
جو بايدن هو الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، لكن وعلى الرغم من كل التوقعات التي رافقت مسار الانتخابات الأمريكية، فإن معالجات أزمات “الشرق الأوسط”، من سوريا إلى اليمن والعراق ولبنان، ربما لن ترى النور بالطريقة التي بُنيت عليها الآمال، لجهة حدوث تهدئة تطال دول المنطقة.
هذه المقاربة تنطلق من حقيقة أنه لا يُمكن لأي رئيس أمريكي أن يُحقق تقدما أو يطلق مبادرة من شأنها تحقيق تقدم ملموس في حلحلة قضايا المنطقة العالقة. ما سبق بُني على مُعطيين:
الأول: لا تهديد مباشر على أمن الولايات المتحدة، وكذا لا يُمكن لأي دولة من دول المنطقة شن هجمات ضد “إسرائيل”، وتحديدا بعد مسار التطبيع الذي -وبشكل عملي- وضع الصراع العربي “الإسرائيلي” في بوتقة الهدوء.
الثاني: بعد أن وصلت الولايات المتحدة إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي نفطيا، فلا يُعتقد أن تقوم الإدارة الأمريكية الجديدة، بقيادة جو بايدن، بأي جهود تنعكس واقعا إيجابيا على عموم دول المنطقة، وهذا يعني في جانب ثان أن واشنطن لم تعد تنظر إلى “الشرق الأوسط” كـ”ملعب جيو ـ استراتيجي” لها.
لكن وعلى الرغم من تلك المعطيات، تبقى الولايات المتحدة حاضرة وبقوة في “الشرق الأوسط”، وتبقى تأثيراتها حاضرة على دول المنطقة، إذ لا ينحصر التأثير الأمريكي على دول “الشرق الأوسط”، وفق الأهمية السياسية أو الدبلوماسية والعسكرية، لكن بات التأثير الأمريكي مؤثرا في النمط السياسي لدول عديدة، وامتدت هذه التأثيرات لتطال الجوانب الثقافية والإعلامية وحتى المجتمعية.
هذه المقاربة للقول بأنه لا فرق بين جو بايدن أو دونالد ترامب لجهة مسار التطورات في المنطقة. لكن بالعموم فإن جوهر الاستراتيجية الأمريكية سيبقى ثابتا إلى الحد الذي تتحقق بموجبه مصالح واشنطن، وكذا ما تُريده مصالح الدولة العميقة في الولايات المتحدة.
وفق نظرة منطقية تستشف سياسة بايدن تُجاه دول المنطقة، يُمكن بناء تصورات للقادم من الأيام، وتحديدا ما يتعلق بالسياسة الأمريكية الجديدة تُجاه السعودية، وكذا تجاه فلسطين، وصولا إلى إيران وعناوين الاتفاق النووي معها.
في السعودية يُنسب إلى ترامب صعود الأمير محمد بن سلمان إلى منصب ولي العهد والحاكم التنفيذي للمملكة. فقد قام محمد بن سلمان، وبرعاية مباشرة من ترامب، بهندسة الهجوم الإرهابي على اليمن. وعقب مقتل الصحفي جمال خاشقجي، لم يوجه ترامب سوى انتقادات صامتة لمحمد بن سلمان، الأمر الذي زاد شراهة ابن سلمان في قضايا متعددة تطال المنطقة.
في المقابل وفي ندوة لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، انتقد بايدن ما وصفه بأنه “شيك على بياض خطير” من ترامب للمملكة، ووعد بأنه سيأمر “بإعادة تقييم العلاقات” مع السعودية. كما وعد بإنهاء الدعم الأمريكي للحملة التي تقودها السعودية في اليمن، والتي أودت بحياة عشرات الآلاف، وأدت إلى تفشي الأمراض والمجاعات.
لكن التعهد بشأن حرب اليمن يتعارض مع تاريخ بايدن، إذ باعت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما -حيث كان بايدن يشغل منصب نائب الرئيس فيها- أسلحة بمليارات الدولارات للسعودية، حتى عندما قصفت اليمن. وكما هو الحال الآن، لم يقم البيت الأبيض في عهد أوباما بمحاولات جادة لتهدئة النظام الملكي السعودي، رغم الاعتقاد بأن محمد بن سلمان قد تسبب في زيادة الانتهاكات الحقوقية في المملكة.
في فلسطين، عندما أعلن ترامب صفقات تطبيع بين “إسرائيل” و3 دول عربية، ربما كان ذلك إحدى أهم النقاط في رئاسته. وقادت الإمارات مسار التطبيع مع “إسرائيل”، حيث كانت أول اتفاقية تطبيع بين “إسرائيل” ودولة عربية مسلمة منذ أكثر من عقدين. واعتبرت القيادة الفلسطينية، التي كانت مُهمشة من المفاوضات، أن هذه الصفقات “خيانة”. ووجهت الاتفاقات ضربة لأحلامهم بإقامة دولة فلسطينية.
وزادت الاتفاقات الطين بلة بعد سنوات جراء سياسات ترامب أحادية الجانب، مثل إعلان القدس عاصمة لـ”إسرائيل”، وإضفاء الشرعية على المستوطنات “الإسرائيلية” التي تعتبر غير قانونية بموجب القانون الدولي، التي قوضت موقف الفلسطينيين في المفاوضات المحتضرة الآن مع “الإسرائيليين”.
من جانبه، رحب بايدن باتفاقيات التطبيع الأخيرة، وقال إنه سيدفع المزيد من دول المنطقة لاتخاذ خطوات لتنفيذ صفقات مماثلة، لكنه قال إنه يعارض السياسة الأحادية التي حددت نهج ترامب تجاه “إسرائيل” والفلسطينيين. كما تعهد بايدن بالتراجع عن انسحاب ترامب من الدعم الاقتصادي والإنساني للفلسطينيين، وإعادة فتح بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وكذلك القنصلية الأمريكية في القدس، المسؤولة عن الشؤون الفلسطينية. لكن ترامب ساعد بالفعل رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو في إرساء حقائق جديدة على الأرض، مما عزز بشكل كبير الموقف “الإسرائيلي”.
وبهذا يتوقع أن يجد بايدن نفسه في مسار تصادمي مع بعض مؤيدي “إسرائيل” في واشنطن. وتجدر الإشارة إلى أن بايدن اعترض على أساليب ترامب تجاه القضية الفلسطينية، ولكن ليس نتائجها.
أما فيما يتعلق بالاتفاق النووي مع إيران، فقد قال بايدن إنه سيعيد الاتفاق النووي من عهد أوباما، المعروف رسميا باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة” (JCPOA)، التي انسحب منها ترامب في مايو/ أيار 2018. ومنذ ذلك الحين، تعيش إيران تحت وطأة عقوبات تعتبر أشد ما واجهته على الإطلاق. وبعد عام من انسحاب ترامب، استأنفت طهران أجزاء من البرنامج النووي الذي فككته “خطة العمل المشتركة الشاملة”.
وقال بايدن لمجلس العلاقات الخارجية: “إذا عادت إيران إلى الامتثال لالتزاماتها النووية، فسأعاود الدخول في خطة العمل الشاملة المشتركة كنقطة انطلاق للعمل جنبا إلى جنب مع حلفائنا في أوروبا والقوى العالمية الأخرى لتمديد القيود النووية للاتفاق”.
وأضاف أن “القيام بذلك من شأنه أن يوفر دفعة أولى مهمة لإعادة ترسيخ مصداقية الولايات المتحدة، مما يوحي للعالم بأن كلمة أمريكا والتزاماتها الدولية تعني شيئا ما مرة أخرى”.
وعليه، يُعتقد على نطاق واسع أن وعد بايدن بالعودة إلى الاتفاق النووي هو السبب وراء رفض إيران العودة إلى طاولة المفاوضات مع البيت الأبيض، في تحدٍّ لحملة تعجيزية سعت إلى الحصول على مزيد من التنازلات من طهران. وقال وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف -الذي لعب دورا رئيسيا في إبرام اتفاق 2015- مرارا وتكرارا إن إيران لن تتفاوض على اتفاق آخر.
في المحصلة، بات واضحاً ضمن ما سبق، أن سياسة بايدن قد لا تختلف بالمطلق عن سياسة ترامب، فسياسة الحزب الديمقراطي يغلب عليها طابع السياسة الناعمة، إذ لا يُعتقد أن تشهد دول المنطقة أي تطورات إيجابية، أقله خلال سنة من تولي جو بايدن مقاليد رئاسة الولايات المتحدة. وحتى هذا الوقت، يبدو أن المنطقة -وفي المشهد العام- مُقبلة على نمط جديد من التحالفات غير التقليدية، وبمعنى آخر: ستتم هندسة تهدئة طويلة الأمد، ما لم تقم “إسرائيل” بخرقها، سواء تُجاه إيران أم لبنان أم سوريا.
_______
د. حسن مرهج – كاتب وخبير استراتيجـي سـوري –