المشهد اليمني الأول/
حرية التعبير الغربية، لقد كان الهجوم الدموي الذي شنه شاب فرنسي على ثلاثة أشخاص بسلاح أبيض وقتلهم في جنوب فرنسا قبل عدة أيام، بمثابة يوم دموي في فرنسا، حيث ادعت وسائل إعلام فرنسية أنه تم إحباط حادث مماثل في مدينة فرنسية أخرى في نفس يوم وقوع تلك الحادثة الدموية.
وكشفت العديد من التقارير الاخبارية أن شاباً مسلحاً قام الساعة التاسعة صباح يوم الخميس الماضي بمهاجمة عدد من الاشخاص في مدينة “نيس” بالقرب من كنيسة “نوتردام” وفي هذا الهجوم أصيب المهاجم برصاص الشرطة واعتقل بعد أن قتل ثلاثة أشخاص.
ولقد كما أمرت رئيس بلدية “نيس”، “كريستين شتراوس”، بإغلاق جميع الكنائس في المدينة حتى إشعار آخر، واصفة حادث يوم الخميس بأنه هجوم إرهابي. ويأتي هذا الحادث في الوقت الذي أهان فيه الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” مقدسات المسلمين قبل أيام قليلة، ما أثار غضباً بين المسلمين في جميع أنحاء العالم. وإلى جانب مواقف “ماكرون” المعادية للإسلام، أرجع رئيس بلدية “نيس”،
في موقف متطرف آخر، هذا الحادث إلى “الإسلاميين المتطرفين” وقال: “فرنسا ونيس ضحايا للفاشية الإسلامية، ولقد دفعتا ثمناً باهظاً”. ومن ناحية أخرى، وعقب هذا الحادث، أعلن وزير الداخلية الفرنسي “جيرار دارمين” على صفحته على تويتر أنه عقد اجتماعا استثنائيا في وزارة الداخلية لمعالجة هذه الأزمة، وأكد أنه تم إعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد.
وفي أعقاب قانون مكافحة الإرهاب الجديد التي تم اصداره في عام 2017، منحت حالة الطوارئ، الشرطة مزيدًا من الصلاحيات لتفتيش الممتلكات والتنصت الإلكتروني وإغلاق المساجد المشتبه في كونها “داعية للكراهية”.
في حين أنه حتى وقت قريب، عندما كان “ماكرون” يقوم بقمع احتجاجات السترة الخضراء، اعتادت حكومته إعلان حالة الطوارئ للتعامل مع الاضطرابات الاجتماعية والسياسية. وهنا تجدر الاشارة إلى أنه بعد حوالي ستة أشهر من وصوله إلى قصر الإليزيه، تحدث “ماكرون” عن خططه المستقبلية لـ “إعادة تنظيم الإسلام” في فرنسا وتحدث أيضا عن خلق “الإسلام الفرنسي”.
وباستخدام هذه الكلمات الغامضة، ذكر أيضًا مسألتين محددتين: الأولى تتمثل في تمويل الإسلاميين والأخرى تدريب القادة الدينيين الإسلاميين في فرنسا.
ووفقا له، يجب أن يكون لدى مسلمي فرنسا رجال دين مدربين من قبل فرنسا. ولتحقيق ذلك، يجب على المسلمين ألا يضطروا إلى توظيف قادتهم الدينيين، وهو ما يذكرنا بقانون مماثل في النمسا تمت المصادقة عليه في عام 2015، يحظر الدعم المالي الأجنبي للمجتمع الإسلامي والمسلمين، وليس للأديان الأخرى.
وتشير التقديرات إلى أن فرنسا بها أكبر عدد من المسلمين من بين الدول الأوروبية ولكن لا يُعرف العدد الدقيق والنسبة المئوية لعدد المسلمين في فرنسا، لأن القانون الفرنسي يحظر السؤال عن ديانة الناس، لذا فهم لا يسألون عن دين أي شخص في التعدادات العامة أو المدارس أو أماكن العمل أو في أي مكان آخر. لكن التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن عدد المسلمين في فرنسا يبلغ نحو سبعة ملايين أو 10 في المئة من إجمالي سكان البلاد.
وهؤلاء السبعة ملايين هم من المسلمين الفرنسيين، يضاف إلى ذلك العدد غير المعروف للمسلمين الأجانب الذين يعيشون في فرنسا والمهاجرين المسلمين غير الشرعيين.
الجدير بالذكر أن الحرب العالمية الأولى فتحت الباب أمام المهاجرين المسلمين إلى فرنسا التي كانت قوة استعمارية حكمت أراضي المسلمين في شمال وشمال غرب إفريقيا، والتي وظفت 132 ألف شاب من مستعمرات شمال إفريقيا كعمال لتعويض النقص في اليد العاملة الناجم عن الانتشار الهائل للشباب الفرنسي في جبهات الحرب مع ألمانيا. ولم يعد بعض هؤلاء الشباب إلى أوطانهم بعد انتهاء الحرب، بل إنهم جلبوا أقاربهم إلى فرنسا.
وبعد الحرب العالمية الثانية ونظراً للحاجة إلى العمالة لإعادة بناء البلاد، فتحت الحكومة الفرنسية في الخمسينيات والستينيات أبوابها لمواطني المستعمرات السابقة، ومعظمهم من المسلمين القاطنين في بلدان شمال إفريقيا.
ولكن ومع كون المسلمين يشكلون نسبة كبيرة من سكان فرنسا وثاني أكبر ديانة في فرنسا، إلا أنهم يواجهون قيودًا واسعة النطاق. ووفقًا لدراسة أجريت عام 2001 من قبل معهد “بروكينغز”، فإنه من بين 1558 مكانًا للعبادة في فرنسا، تم بناء خمسة مساجد فقط رسميًا في جميع أنحاء البلاد. وعند المقارنة بـ 40.000 كنيسة و 957 معبدًا و 82 معبدًا يهوديًا في فرنسا، يمكن ملاحظة عمق التمييز المنهجي ضد المسلمين.
إن السياسات التمييزية الممنهجة التي انتهجتها مختلف الحكومات الفرنسية ضد المسلمين، وتحت ذريعة الهجمات الإرهابية، تمت معاقبة المسلمين الذين كانوا ضحية لتلك السياسيات التمييزية، مثل الهجمات الهندوسية على المسلمين في الهند، أو الهجمات البوذية المتطرفة على مسلمي “الروهينجا” في بورما، أو الهجمات العنصرية على المسلمين في الغرب، مثل الهجمات الإرهابية التي وقعت في نيوزيلندا قبل عدة سنوات. وهنا تجدر الاشارة، هل تتمسك الحكومة الفرنسية بحرية التعبيرعملياً وتبرر الضغط على المسلمين بمحاربتها للتطرف؟
في يوليو 1990، أقر مجلس النواب الفرنسي دستورًا بدا وكأنه قنبلة، حيث جرّمت فرنسا إنكار “الهولوكوست” بموجب قانون “غايسوت”. ولقد تم سن هذا القانون في السنوات اللاحقة للضغط على منتقدي تاريخ الاستعمار الفرنسي. وظهر مفهوم “قانون الذاكرة” عام 2005 حول كيفية تدريس الاستعمار الفرنسي في المدارس الفرنسية.
حيث نصت المادة 4 من قانون الاستعمار الفرنسي على أن البرامج التعليمية يجب أن تُعلم “الدور الإيجابي” لوجود فرنسا في الخارج، بينما لا يمكن إنكار تاريخ الجرائم الفرنسية ضد العديد من المجتمعات الأفريقية، وخاصة الجزائريين. ولقد أثار هذا القانون ضجة، حيث اضطر الرئيس الفرنسي “جاك شيراك” السابق في النهاية إلى إلغائه.
في الواقع، إن الجزائريين والدول الأخرى التي استعمرتها الحكومة الفرنسية والتي لديها أدلة تاريخية على جرائم الاستعمار الفرنسي، تساءلوا عما إذا كان المشرعون الفرنسيون، مثل قانون “الهولوكوست”، قد اتخذوا إجراءات مماثلة لتجريم إنكار الجرائم ضد الإنسانية التي وقعت في التاريخ؟. إن هذا النهج المزدوج والعنصري هو أكثر دراماتيكية من شعار حرية التعبير عن “الهولوكوست”.
ومنذ سنوات، حكم على المؤرخ البريطاني البارز “ديفيد إيرفينغ” بالسجن ثلاث سنوات من قبل محكمة في فيينا، عاصمة النمسا، بتهمة إنكار “الهولوكوست”. وفي النمسا أيضًا، يُعتبر “إنكار الهولوكوست” جريمة يعاقب عليها القانون النمساوي بالسجن لمدة تصل إلى 10 سنوات.
وتُثير مثل هذه المعايير المزدوجة، التساؤل عما إذا كان مصطلح حرية التعبير ينطبق فقط على المطبوعات الغربية لإهانة المقدسات الإسلامية، أو ما إذا كان يمكن للآخرين استخدامه أيضًا. ولماذا عندما عُقد مؤتمر حول “الهولوكوست” في إيران ودُعي خبراء ومؤرخون أوروبيون، مُنع الكثير من الأشخاص من مغادرة مطارات بلدانهم بعد إعلانهم عن آرائهم وقبولهم بهذه الدعوة؟.
في الواقع، لقد أرسل قصر الإليزيه رسالة إلى المسلمين مفادها أنه يمكن أن يهين أسمى مقدساتهم، ويمنعهم هم وأطفالهم من معرفة حقائق التاريخ الاستعماري، وأنه سوف يقيد حرية التعبير حيثما تتطلب مصالح الحكومة الفرنسية (مثل قضية الهولوكوست).