المشهد اليمني الأول/
بعد مرور سبع سنوات ونيّف على معارك المقاومة ضد التكفيريين والإرهابيين في سوريا، سمحت قيادة حزب الله بنشر بعض من أسرار مئات الاشتباكات والمعارك التي خاضتها ابتداءً من سنة 2012 حتى سنة 2017.
تاريخ تحرير جرود القلمون وجرود عرسال والقاع وطول الحدود اللبنانية السورية، من تواجد الجماعات التكفيرية والإرهابية، وذلك عبر سلسلة تتألف من 12 حلقة، تعرض كل يوم جمعة على قناة المنار.
مشاهد تعرض للمرة الأولى. قُصص بطولية لم تكن تُعرَف. معلومات سريّة خرجت إلى العلن. تكتيكات وخطط دغدغت عقول المراقبين. ضبّاط دراسات لم يكشف الكثير عنهم! والرسالة للأصدقاء والخصوم والأعداء: “المقاومة في جعبتها الكثير الكثير”.
في الحلقة الثالثة من سلسلة أسرار التحرير الثاني، وللمرة الأولى كشفت كاميرا مقاتلي المقاومة تفاصيل كامل عملية تحرير “تل مندو” في ريف القصير السوري، من التخطيط إلى التحضير ومن ثمّ التنفيذ. وحتى أصغر التفاصيل وصولا إلى الاشتباكات القريبة التي لامست الأمتار القليلة.
وكأنّ مشهد الكاميرات التي كانت تصوّر العملية من كل جانب، ينقصه أن تكون تلك المشاهد منقولة بشكل مباشر إلى غرفة عمليات قيادة المقاومة، في أمرٍ يمكن لو حصل، أن يعكس مستوى تطور القيادة والسيطرة الذي أصبح متوفّرًا لدى تلك القيادة. أوليس قد وعد الأمين العام لحزب الله بتدمير الدبابات الاسرائيلية مباشرة على الهواء في أي حرب قادمة؟!
أما الحلقة الرابعة، فقد تناولت معركة تحرير ريف القصير، والذي يشكّل حزام المدينة، وخط الدفاع الأول عنها، فإنّ قيادة المقاومة كانت حريصة على جعل هذه المعركة “نقطة تحوّل” في وعي قادة وجنود التنظيمات الإرهابية والتكفيرية في المعارك المستقبلية معهم.
فماذا عن الرسائل التي أرادت المقاومة ايصالها؟
في استراتيجية المقاومة، الصمت أبلغُ رسالةً وإرباكًا. ولكن في إطلالة سريعة على مضمون ما ورد في الحلقتين الثالثة والرابعة، نرى أنّهما كانتا مليئتين بالرسائل الصامتة والصاخبة التي تعدّت لبنان، وطرقت آذان مقر “الكَرْيَاه” في “تل أبيب” وحلفائهم، حيث أفصحت المقاومة بكل جرأة عن الكثير من المعلومات المهمة لديها.
حملت الحلقتان عدة رسائل سياسية واضحة، وهي أنّ قرار المقاومة في الدفاع عن الحدود اللبنانية وأهالي القرى وخاصة الحدودية منها هو أمر لا نقاش فيه، عندما يتعلّق الأمر بالدفاع عن النفس ودَفع خطر داهم، وتصريح أحد الإرهابيين في إحدى الحلقات عن نيتهم تهجير المسيحيين من القصير إلى مدينة زحلة، كان مثالًا صارخًا على نواياهم القديمة المبيّتة.
هذا عدا عن اعتداءاتهم بالصواريخ على الأراضي اللبنانية ومهاجمتهم البلدات الآمنة. والرسالة الأكبر أنّ المقاومة كانت تسعى لإفشال مخطط كبير يسعى التكفيريون إلى تنفيذه يصل الحدود السورية بالساحل اللبناني وبدعم ومباركة أميركية.
أما الرسائل العسكرية فكانت عديدة ولافتة، أظهرت بعض الميّزات التي تمتلكها المقاومة، والتي ستلقى اهتمامًا كبيرًا لدى الكثير من الأصدقاء والأعداء، وخاصةً لدى الجيش الاسرائيلي قيادةً وضباطًا وجنودًا.
الرسالة الأولى، هي الإصرار على انجاز المهمة وتحقيق الهدف مهما كانت الصعوبات والمعوقات، وأن قيمة انجاز المهمّة هي في صلب العقيدة القتالية للمقاومة، عبر التوازن بين الاستعداد الكامل للتضحية وبين المحافظة على أقصى درجات التأمين والحماية للمقاتلين. وقد لوحظ هذا الأمر في تنفيذ الهجوم على هدف مُحاط بالعوائق المائية الضحلة في “تل مندو”، يمتلك ميزة الإشراف والسيطرة النارية على محيطه. فكان التصميم على العبور رغم كل الظروف القاسية، وعدم السماح لحادث تكتيكي أن يؤثر في استكمال المهمة. وهذا ما يعكس وجود قيادة شجاعة تملك جرأة اتخاذ القرارات الصعبة لمصلحة أكبر.
الرسالة الثانية، أنّ تشكيلات المقاومة وفي أول عمل عسكري نوعي لها بعد حرب تموز 2006 في الأراضي السورية، استخدمت نظام “القتال المشترك”.
وهذا يعني أن مجموعات المشاة في الميدان تقاتل بالتنسيق المباشر مع أسلحة المدفعية وضد الدروع والرشاشات الثقيلة والدبابات ومجموعات وآليات الهندسة. وهذا ما يعطيها ميزة تفاضلية على العدو، وقوة في النّار، وسرعة في شلّ العدو وحسم الاشتباك. وقد أظهرت مشاهد تحرير ريف القصير الكثير من ذلك.
الرسالة الثالثة، المرونة وسرعة الانقضاض التي تتمتع بها تشكيلات المقاومة، وقدرتها على تحقيق المفاجأة للعدو في الزمان والمكان القاتلَين، وهذا ما جعل موقع “تل مندو” يسقط خلال دقائق قليلة من بدء ساعة الصفر! وما جعل المقاومين يسيطرون على 16 قرية في ريف القصير خلال 4 أيام!
الرسالة الرابعة، هي القدرة على التأقلم مع الموقف العسكري المستجد، والتحوّل السريع من الهجوم إلى الدفاع الصلب، حفاظًا على ما تم انجازه، وقد برز هذا الأمر في الدفاع المستميت عن موقع “تل مندو” لمدة أربعة أيام متتالية أمام هجمات عنيفة لأعداد تفوق أعداد المقاتلين المدافعين بعشرة أضعاف على الأقل.
الرسالة الخامسة، هي مستوى التنظيم الذي تتمتع به تشكيلات المقاومة، والذي انعكس بمستوى الاهتمام بالحماية الفردية، واستخدام المقاومين للخرائط المرمّزة في أرض الميدان، والحد من أخطاء النيران الصديقة في هكذا هجوم واسع متعدد المحاور والاتجاهات كما حصل في ريف القصير.
الرسالة السادسة، أن الروح هي التي تقاتل، وهذا ما ينعكس في الميدان شجاعة وبطولة وإقدام وثباتًا وروحًا استشهادية، كما حصل مع الشهيد قاسم زعيتر، الذي رمى بنفسه واحتضن قنبلة العدو، ليحمي باقي إخوانه في الغرفة كي يكملوا المهمة، فكان أوّل استشهاديٍّ من نوعٍ آخر للمقاومة في سوريا.
أما الرسالة السابعة فهي.. ماذا ينتظر الجليل؟! هل حجم النار الكثيف والنوعي الذي تمتلكه المقاومة؟ أم الخطط العسكرية المعقّدة والمفاجئة التي يعمل قادة المقاومة على إنجازها ليلًا نهارًا؟
لعلّ الحلقات القادمة تُنبئنا أكثر عن صورة معركة المقاومة القادمة مع العدو الإسرائيلي. فعلى الرغم من سرد الكثير من التفاصيل إلّا أن معركتي تحرير تل مندو وريف القصير ما هما إلا البداية.
فماذا ستظهر المقاومة في الحلقات المقبلة من قوتها وتكتيكاتها وأسرارها؟
حتى الآن لم يصدر أي تعليق اسرائيلي حول هذه السلسلة، لكن الشيء الوحيد الذي أتمنى الآن أن أراه، هو تقاسيم وجوه، ونظرات عيون قادة وجنود العدو الإسرائيلي حين يشاهدون بسالة وشجاعة وإقدام مقاتلي المقاومة خلال الاشتباكات في سوريا، وهم الذين قد فشلوا بالانتصار على أصدقائهم من الجنود الاسرائيليين الذين كانوا ينفّذون دورًا تمثيليا لمقاتلي حزب الله في إحدى مناوراتهم!
فكيف إذا كانت المقاومة قد جهّزت لنظام معركة مع العدو الإسرائيلي متطورًا عدة أضعاف عن نظام قتالها في سوريا!!
__________
محمد زكريا عبّاس