المشهد اليمني الأول/
كالعادة كلما هلت ذكرى الثورة 21، 26 سبتمبر يتساءل صاحبي: أي الثورتين حملت معنى الثورة بكامل صفاتها ؟!
فأقول: يا صاحبي المشكلة أننا كيمنيين وعرب بشكل عام نُحكِّم العاطفة بأفقها الساذج في كل شأن من شؤون حياتنا بحيث نعطي الأحداث والأشخاص قداسات تحوِّلهم إلى أصنام حجرية أو بشرية لا يتردد البعض عن عبادتها ، مع أن القضية معروفة كما قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ( اعرف الحق بالحق.. ولا يُعرف الحق بالرجال ) وأي حدث إنما يقاس بالإنجازات التي تحققت والتحولات التي صُنعت،
من هذه النقطة يمكنك أن تعرف الفرق بين الثورتين، فـ ثورة 26/1962م كانت بالفعل ثورة شعب وطموح وطن راود الكثير من اليمنيين ، لكنها أحُبطت من خلال التدخلات الخارجية وبعض الخيانات الداخلية التي أجهضت الثورة وجعلتها تدخل في معمعات متواصلة أفقدتها الرونق والبهاء المتصل بأحلام الناس وما رافقها من تطلعات كبيرة ارتسمت في مخيلة المواطنين على مدى عقد من الزمن ، بدأت تلك التدخلات الخارجية بالتدخل المصري ثم الاستحواذ القسري السعودي،
كل هذه التدخلات خلطت الأوراق وجعلت الثورة تنحرف عن مسارها الطبيعي ، ولهذا السبب أمضينا أكثر من نصف قرن من الزمن ونحن نراوح بين الانقلابات وحالات التهالك على الكرسي ، إلى أن سلَّمنا الأمر للمدعو الدنبوع رجل محكوم عليه بالإعدام بتهمة خيانة الوطن ، مع ذلك ارتضيناه بفعل الضغط السعودي الأمريكي المشترك..
منتهى التناقض بين القول والفعل، فالثورة – كما هو المعهود – تصنع التحولات وتتبنى التغيير إلى الأفضل ، لكن ما حدث أن كل الأحلام تبخرت، فجاءت ثورة 21سبتمبر 2014م ضرورة استراتيجية لتصحيح المسار ، وفي ظل الوضع الحرج والموروثات السقيمة المتراكمة التي ورثتها هذه الثورة إلى جانب العدوان الهمجي السافر، إلاَّ أنها استطاعت حتى الآن أن تحقق ولو الحد الأدنى ممَّا وعدت به،
بحيث امتلكت عناصر القوة وحققت توازن الردع بقدرات ذاتية في ظروف شديدة الصعوبة ، والقول بأن الأسلحة مصدرها إيران يدل فعلاً على غباء دول العدوان التي تمتلك بوارج حربية وسفناً على درجة عالية من الاستعداد تمخر عُباب البحار ولا تستطيع أن تضبط الأسلحة المتسربة من إيران – حسب الزعم – وفي هذا معنى أهم خاصة حينما نُدرك أن الحصار والمتابعة يستهدفان المواد الغذائية والبترولية وأمثالها مما يحتاج إليه المواطن العادي،
وهذا يؤكد بلا أدنى شك أن الحصار ممنهج ويستهدف المواطن ولا علاقة له بالأسلحة كما يقال، وهذه هي الكارثة التي يجب أن يتفهمها العالم كون اليمن مستهدف لذاته كدولة وشعب وأرض ، الكل مستهدفون لا لشيء إلا نظراً لحيوية هذا الشعب وثباته على النهج الثوري التحرري بأفقه الوطني وبُعده القومي وإطاره الإسلامي المؤكد للأخوة بين عامة المسلمين والولاء المطلق لمرتكزات العقيدة بمنهجها الواضح..
يكفي هذه الثورة فخراً أنها بدأت تتخلص من الاختلالات المتراكمة وتتصدى للفساد، إلى جانب المحافظة على الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية والخلاص كلياً من التبعية والهيمنة السعوأمريكية على القرار السيادي ، وهذه كلها إنجازات تحسب للثورة الأخيرة بعد أن أمضينا فترة من الزمن وحالات الهبر والعبث بالموارد العامة تتم في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع ممن كانوا يحكمون البلاد،
فعصابات المنتفعين التي استولت على أراضي الدولة والأوقاف والمواطنين بالقوة وسعت إلى إيقاف عجلة الصناعة وتخريب الإنجازات التاريخية ببُعدها الإنساني وكبَّلت الاقتصاد الوطني باتفاقات فاضحة مثلت أبشع جريمة في حق الوطن والشعب ، وقادت إلى هجرة رؤوس الأموال إلى خارج الوطن ، كلها تكشف مدى الانحراف الذي حدث في ظل الثورة،
وهنا تتضح عظمة الثورة الأخيرة، وفي حين أننا نثمَّن ما أنجزته ثورة 21سبتمبر حتى الآن إلا أننا للآسف لا نزال نسمع أن الشكوى قائمة وما يزال سلاطين الأفاعي القذرة ينفثون سمومهم القاتلة التي تسعى إلى تشويه خطوات الوطن وتحاول إحباط كل مساعي الإصلاح ومحاربة الفساد،
وفي المقابل هذه الأفاعي تملأ السماء صراخاً والأرض عويلاً وتحاول إشعال الفتنة في كل مكان، وفي النهاية يتحسَّرون على الفقراء من فنادق الغرف الفارهة ويتباكون على الثورة من البلد الذي شن أبشع حرب على ثورة 26سبتمبر وتبنى المؤامرة عليها منذ أول وهلة ، فعن أي ثورة يتحدثون؟!! وماذا يريدون ؟!! وأين سيصلون بالبلد وأبنائه المساكين؟!! أسئلة محيِّرة تتطلب إجابة كافية ، ولا نعتقد أننا سنصل إلى إجابة لأن الدنبوع ومن حوله مسلوبو الإرادة ولا يمتلكون حتى الإفصاح عمَّا يختلج في صدورهم ، فكيف بهم أن يجيبوا على مثل هذه الأسئلة الصعبة !!؟ الأمر بحاجة إلى أكثر من تفكير وأكثر من عودة إلى الذات ..
أكتفي بما أسلفت، وأتمنى يا صاحبي أن تكون قد استوعبت الدرس من هذه المعطيات التي لم تكن صنيعة الخيال لكنها موجودة في الواقع ويلمسها كل مواطن يمني..
وأخيراً هناك حقيقة لا يمكن إنكارها ولا يشكك فيها أحد، وهي أن عدوان 6 سنوات بهذا المستوى الشرس من العنجهية والغطرسة أمام الصمود والاستبسال وحدهما يكفيان لتأكيد سلامة النهج ويؤكدان أن الثورة ماضية في المسار الطبيعي ، خاصة إذا ما أشرنا إلى الحصار الاقتصادي الجائر الذي يحاول خنق شرايين الحياة ويضيف إلى التراكمات السابقة مآسِ جديدة
مع ذلك فإن ما تنعم به المحافظات المحررة من أمن واستقرار يُحسب لقيادة هذه الثورة التي تبذل جهوداً كبيرة للنهوض بالإرادة الوطنية المستقلة القادرة على إيقاف الهبر والعبث بالموارد العامة للبلاد ، وإن شاء الله تصل إلى غاياتها في ظل الصمود والتحدي والقدرة على الفعل بلا هيمنة خارجية وبقدرات ذاتية لا علاقة لأحد بها لا إيران ولا أمريكا ولا روسيا ولا غيرها. وكما قلت في البداية يا صاحبي اعرف الحق بالحق .. ولك تحياتي.. والله من وراء القصد ..
_______
أحمد يحيى الديلمي