المشهد اليمني الأول/
اتفاقية سلام، أو هكذا وصفوها، الإمارات والبحرين، تم توقيعها في واشنطن برعاية دونالد ترامب، معلناً بهذا تجاهله للقضية الفلسطينية ويمنع أي احتمال لمعاهدة سلام شامل بين إسرائيل والعالم العربي بأسره.
كان من الممكن أن يدخل يوم 15 سبتمبر في تاريخ شعوب الشرق الأوسط كتاريخ بداية تغيير جذري، وميلاد جديد لأمل حقيقي، حيث وقع -إلى جانب دونالد ترامب- “بنيامين نتنياهو” وممثلو الإمارات العربية المتحدة والبحرين بالأحرف الأولى على اتفاقية لتطبيع العلاقات بصورة رسمية بعد عداوة استمرت لعقود، بين إسرائيل ودولتين عربيتين في الخليج.
ومع ذلك، بالتعمق فيما وراء هذه الاتفاقية، وبتجاوز فكرة “السلام”، والنظر إلى الواقع بوضوح، يجب أن نتذكر أن الوثيقة الموقعة في البيت الأبيض ليست معاهدة سلام، على عكس ما يعلنه الرئيس الأمريكي بحماسة، في الواقع، على عكس مصر والأردن، لم تشن الإمارات العربية المتحدة حربًا ضد إسرائيل، وكذلك البحرين التي تقوم بدور “الوكيل” عن السعودية، ما يجعل سيادتها محدودة لاعتمادها على مساعدات من الرياض وأبو ظبي.
كذلك تنص الاتفاقية الموقعة على الاعتراف المتبادل الذي من شأنه أن يؤدي إلى فتح السفارات وتسيير الرحلات الجوية المباشرة وتبادل العلاقات التجارية في قطاعات متنوعة مثل التكنولوجيا “المتقدمة” والاتصالات والبيئة والسياحة.
بالرغم من أن العلاقات بين هذه الدول الثلاث، كانت متواجدة بالفعل لسنوات مضت، بشكل سري – لا سيما في مجال الاستخبارات للإمارات – فإن إضفاء الطابع الرسمي على هذه العلاقة يسمح للدول الثلاث بأن تفترض علانية شراكة ضرورية من قبل محاربة العدو الإقليمي لتلك الدول في المنطقة -إيران، وكذلك تشكيل جبهة ضد تركيا.
هذا هو الهدف الرئيسي الذي شُكلت به حدود هذه الاتفاقية، لأنه لا توجد فوائد أخرى قد تعود على تلك البلدان، أو بالأحرى القضية الفلسطينية، فالنسبة للفلسطينيين، ينظر إلى خطوة أبو ظبي على أنها “طعنة في الظهر” لأنها لن تغير بأي حال من الأحوال نظام الاحتلال.
على عكس ما قدمه ولي العهد ورجل الإمارات القوي “محمد بن زايد آل نهيان”، فإن مشروع ضم الضفة الغربية “المهم” بالنسبة لـ “بنيامين نتنياهو” وأنصاره، لم يتم إلغاؤه، بل تم تأجيله ببساطة، ومن المتوقع أن يستخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي هذه الورقة إذا دفعته الظروف الانتخابية إلى ذلك.
وهكذا يمكن لرئيس الوزراء الإسرائيلي أن يتباهى بتحقيقه نجاحاً باهراً: الاتفاق الذي يعترف بحكم الأمر الواقع بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطيني، وبالتالي لن يُفرض على تل أبيب أي تنازل لصالح الفلسطينيين ولا أي عودة للمفاوضات السياسية، المتحورة حول “حل الدولتين”.
هذه الاتفاقية قضت على مبادرة السلام العربية لعام 2002، والتي قادها في ذلك الوقت “عبد الله بن عبد العزيز آل سعود”، ولي العهد آنذاك، من المملكة العربية السعودية، من خلال اشتراط التطبيع مع إسرائيل على إنشاء دولة فلسطينية داخل حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
وبالتالي، حطمت الإمارات العربية المتحدة هذا الإجماع العربي، وأصبح لا مكان على طاولة المفاوضات للصراع العربي الإسرائيلي، ولا يوجد سوى العودة إلى القانون الدولي لحل النزاع.
لذلك، هناك سبب للتساؤل عن الإنجازات الحقيقية التي تسمح بها اتفاقية السلام “الوهمية” برعاية ترامب! إذا أرادت أبو ظبي أن تضع نفسها كدولة ذات تفكير تقدمي في منطقة الخليج، فمن الضروري التشكيك في نواياها وأهدافها السياسية قصيرة وطويلة المدى، خاصة وأن الإمارات استطاعت خلال السنوات الأخيرة أن تؤكد فكرة أنها لا تتردد في استخدام القوة الصارمة لتعزيز مصالحها.
في اليمن على سبيل المثال، ساهمت هذه المغامرة العسكرية، التي دخلتها بمشاركة السعودية، بشكل واضح في الكارثة الإنسانية التي تعيشها البلاد الآن، وفي ليبيا، لا تتوقف منظمات حقوق الإنسان عن التنديد بالدعم اللامتناهي التي تقدمه أبو ظبي لأمير الحرب الليبي “خليفة حفتر”، بالإضافة إلى دور الإمارات الواضح في القضاء على ثورات الربيع العربي، ودعم كافة الثورات المضادة لها، لتجنب عدوى انتقال الروح الديمقراطية إلى شعبها، ما يهدد نظامها.
المفارقة هنا، أن الفائز الأبرز -على المدى الطويل- من هذه المعادلة الاستراتيجية الجديدة في الشرق الأوسط قد يكون عدوهم اللدود: إيران. أمام مشهد عربي ممزق بالانقسامات، تبرز طهران أكثر فأكثر كمحور يجتمع حوله معارضو “منطق الهيمنة”، حيث يتم التخلي عن القضية الفلسطينية وتطلعات الشعوب لصالح سلام منفصل والعودة إلى النظام العسكري.
أخيراً، يجب التأكيد على أنه من واجب المجتمع الدولي أن يطالب بسلام حقيقي، يراعي القانون الدولي ويحترم حقوق الشعوب.