المشهد اليمني الأول/
قد تستغرب حين تقرأ هذه التفاصيل الآن، ولكنّها في وقتها كانت مرشحة بقوة أن تتسبّب في حرب، ولكن ليس أي حرب، بل حروب نووية يمكن لها أن تُفني العالم بأكمله!
تُعتبر “الأزمات الدولية” هي الفضاء المتوتِّر بين السلام والحرب، فإذا تغلّب العالم على الأزمة نصل للسلم وإذا لم يتغلّب عليها نصل للحرب، والاحتمالات مفتوحة دائماً.
وتُعرَّف الأزمات الدولية بثلاثة أشياء، وفق ما نشرته مجلة The National Interest الأمريكية:
1-الوقت. 2- التهديد. 3- احتمالية العنف.
فكلما قصُر الوقت، زاد الشعور بالتهديد على المصالح المهمة. وبطبيعتها، لا يمكن أن تستمر الأزمات إلى أجلٍ غير مسمى. فمثلما هو الحال في عالم الطب، الأزمة هي النقطة التي يجب أن تتحسّن فيها الأمور أو تسوء.
وقد استمرت أزمة يوليو/تموز 1914، على سبيل المثال، لأسابيعٍ بسيطة فقط، لكنها أغرقت القوى العظمى لاحقاً في حربها العالمية الأولى التي استمرت أربع سنوات، وراح ضحيتها ملايين البشر، كان هذا قبل اختراع القنبلة النووية، فماذا لو حصلت هذه الأحداث في وجود قوتين عالميتين تمتلكان سلاحاً نووياً؟!
الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية
خلال أربعينيات القرن الماضي نشبت حربٌ عالمية أخرى بين القوى العظمى في ذلك الوقت. حاربت ألمانيا بقيادة هتلر إلى جانب إيطاليا بقيادة موسوليني إلى جانب اليابان، بينما على الطرف الآخر كانت بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي ولاحقاً أمريكا.
كانت موازين القوة تميل للألمان تحديداً، فبعد سيطرتهم على أغلب أوروبا قرر الألمان غزو الاتحاد السوفيتي، وكادوا ينجحون في غزوه بالفعل.
بعدما انتهت الحرب وهزم هتلر وهزمت اليابان وإيطاليا، كانت فرنسا وبريطانيا قد أُنهكتا وأصبحتا أضعف بكثير من أن تظلا قوتين عالميتين، وبرزت أمريكا قوةً غربية رئيسية والاتحاد السوفييتي على الجانب الآخر من العالم، وأطلق على الاتحاد السوفييتي وحلفائه “الكتلة الشرقية” وعلى أمريكا وحلفائها “الكتلة الغربية”.
وهكذا بدأت “الحرب الباردة” بين الاتحاد السوفيتي الشيوعي وأمريكا الليبرالية. واتخذت تلك الحرب الباردة أشكالاً مختلفة ومتنوعة، من أوروبا إلى إفريقيا وآسيا إلى العالم العربي والإسلامي.
وقد كانت للأزمات الدولية خلال الحرب الباردة دلالةٌ خاصة؛ لأن كل لحظة من الصراع السياسي أثارت احتمالية نشوب حربٍ نووية بين أمريكا والاتحاد السوفيتي. وحملت كل مواجهة احتمالية لا لنشوب حرب وحسب، بل ولإبادة الحضارة الإنسانية عن بكرة أبيها.
وفيما ننظر إلى هذه الفترات وكأنها شيءٌ من الماضي موضوعٌ في متحف، فقد كانت في الحقيقة لحظات من الخوف الوجودي لكلٍّ من القادة الأمريكيين والسوفييت.
وقد يكون من المفيد لنا مراجعة ومعرفة أسوأ خمس أزمات حدثت خلال الحرب الباردة.
1. الجدار الذي كان رمزاً للحرب.. برلين 1961
عندما انتصر السوفييت وأمريكا وحلفاؤهما على هتلر وصلوا عاصمته برلين، وقسّموها إلى منطقتي نفوذ، برلين الشرقية التابعة للاتحاد السوفيتي، وبرلين الغربية التابعة للمعسكر الغربي. وفي عام 1961، قال وزير الخارجية الأمريكي دين راسك: عندما أخلد إلى النوم ليلاً، أحاول ألا أفكِّر في برلين. ما يعني أنّها شكّلت مشكلة مستعصية للسياسة الأمريكية دائماً.
كانت الحاميات الغربية في العاصمة الألمانية المقسَّمة طوال فترة الحرب الباردة، العصب المكشوف للغرب الذي يرمز للتصميم وسط ما كان حينها “جمهورية” ألمانيا الشرقية التابعة للاتحاد السوفيتي.
وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 1961، بعد أشهرٍ قليلة من بناء جدار برلين الذي يفصل بين برلين الشرقية وبرلين الغربية، حاول دبلوماسي أمريكي عبور “نقطة تفتيش تشارلي” إلى برلين الشرقية.
حينها طلبت شرطة ألمانيا الشرقية، التي لم تعترف أمريكا بسلطتها، أوراقاً رسمية منه. رفض الدبلوماسي ذلك، وعاد بعد ذلك بعرباتٍ عسكرية وجنود. ولكن، مرةً أخرى طالبه رجال الشرطة المحليون بالموافقة على مطالبهم.
أرسل الأمريكيون هذه المرة الدبابات. وبعدما وصل السوفييت الخبر، أرسلوا هم أيضاً دباباتهم. ولمدة ثلاثة أيام، ظل جنود أمريكا والاتحاد السوفيتي يحدق كل منهما في أسلحة الآخر في شارع من شوارع ألمانيا.
أخيراً، اقترح الأمريكيون بهدوءٍ أن يسحب السوفييت دبابة واحدة من دباباتهم. فعل السوفييت ذلك، وردّ الأمريكيون بالمثل. وانتهت الأزمة، لكنّ برلين الغربية ظلت حتى عام 1989 بؤرة استيطانية غربية وسط المعسكر الشيوعي الشرقي.
ولم تنتهِ أزمات برلين الغربية والشرقية إلا عام 1989 عندما كان الاتحاد السوفيتي على شفا الانهيار، فهدم الجدار وأصبحت برلين بكاملها غربية. ولم يطل الزمن فبعد أقل من سنتين انهار الاتحاد السوفيتي كاملاً.
2. الحرب النووية على أبواب أمريكا.. كوبا 1962
تقع كوبا في الجنوب الغربي لأمريكا، ولا يفصلها عن مدينة ميامي سوى القليل من الإبحار في خليج المكسيك.
ورغم أنّ كوبا جارة أمريكا إلا أنّها كانت معادية بشدة لها، ومحسوبة بشكلٍ كامل على المعسكر الشيوعي التابع للاتحاد السوفيتي.
وفي عام 1962 تواجه الاتحاد السوفيتي وأمريكا مرةً أخرى، عندما علمت أمريكا بخطة روسيا السرية عندما بدأ السوفييت إنشاء قواعد صواريخ نووية في كوبا، ما يعني أنها تستطيع – إذا اكتمل المشروع – أن تدمّر أمريكا بضغطة زرّ.
علم الأمريكان بالخطّة بعدما التقطت طائرة تجسس أمريكية صوراً للقواعد السوفييتية. ومرة أخرى كما حدث في برلين عام 1961، تواجه الرئيس الأمريكي جون كينيدي والزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف مرة أخرى. ولكن في أزمةٍ أكبر حيث كان الخطر واحتمالية نشوب حرب نووية أقوى بكثير.
في هذه الأزمة، أساء خروتشوف التقدير، وأراد الحصول على ميزةٍ استراتيجية على الرئيس الأمريكي. وبالرغم من موافقة كينيدي – أثناء الازمة – على صفقةٍ سرية لإزالة صواريخ أمريكية مماثلة من تركيا، تعرَّض خروتشوف لاحقاً للإذلال، واستُخدمت أزمة صواريخ كوبا ضده وعزله زملاؤه في الكرملين بعد ذلك بعامين.
لو استمرّ قادة الجيش الأمريكي في خططهم الرامية إلى قصف مواقع الصواريخ الكوبية، لكان من شبه المؤكد أنّ ذلك يعني حرباً نووية مباشرة. بل كان مجرد وقوع حادث أو لحظة من الذُّعر من الممكن أن يتحوَّل إلى كارثة نووية عالمية، خاصةً إذا تسبب إصبع زنادٍ متهوِّر في أحد الجانبين في إطلاق صراع بحري حول كوبا.
لكن ثمة ملاحظة واحدة مثيرة للاهتمام: أنّ فيديل كاسترو زعيم كوبا والأيقونة اليسارية العالمية المحبوبة، شجّع السوفييت على المبادرة باستخدام الهجوم النووي ضد أمريكا. انتقد خروتشوف نفسه كاسترو، وندم كاسترو بعد خمسين عاماً – في عام 2012 – على توصيته ببدء الحرب العالمية الثالثة.
3. الحرب التي رغب فيها جنرالات السوفييت بشدّة: فيتنام – 1965
بعد أزمة جدار برلين وأزمة الصواريخ الكوبية بثلاث سنوات، كان العالم على موعدٍ آخر من المواجهة بين القطبين العالميين.
في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1965، ورد أن الرئيس الأمريكي ليندون جونسون انفجر بغضبٍ في اجتماع هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي، عندما طلبوا منه أن يكون تدخله في فيتنام أكبر. انطلق جونسون في سبّهم؛ لأنهم في رأيه مستعدُّون للمخاطرة بخوض حربٍ نووية من أجل فيتنام. بعد ذلك، اتضح أنه لم يكن الوحيد الذي يواجه مشكلة مع الجنرالات. فقد واجه القادة السياسيون للاتحاد السوفييتي مشكلة مع جنرالاتهم أيضاً.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، نُشرت في روسيا أخيراً مذكرات كانت محجوبة في السابق لأناستاس ميكويان، وهو أحد قادة الاتحاد السوفيتي السياسيين.
يروى ميكويان قصَّة مروعة من عام 1965، عندما اقترحت هيئة الأركان العامة السوفيتية، الغاضبة من القصف الأمريكي لفيتنام، زيادة الضغط على برلين:
أكد الجنرال روديون مالينوفسكي، وزير الدفاع السوفيتي أنه لا ينبغي أن نكون مقيَّدين بأي شيء نفعله بالفعل لمساعدة فيتنام. وأننا يجب أن نتوقع تحركاً موجهاً ضد كوبا أيضاً. وبالتالي يجب علينا مواجهة الأمريكيين بفاعلية.
وقُدِّم اقتراح أنه يجب إجراء مظاهر عسكرية في برلين وعلى الحدود مع أوروبا الغربية وإرسال وحدات عسكرية معينة، القوات المحمولة جواً وغيرها، من أراضينا إلى ألمانيا والمجر. وأكد أننا يجب أن نكون مستعدين لضرب برلين الغربية. وبشكلٍ عام، فيما يتعلق بالوضع المستجد، ينبغي ألا نخشى الاقتراب من خطر الحرب أبداً.
كتب ميكويان أن موقف الجيش “أذهله”، وأن القادة السوفييت السياسيين المدنيين، ذعروا من هذه الفكرة بسرعة. في النهاية مُنيت أمريكا بالهزيمة في فيتنام عام 1975 وانتصر السوفييت عبر حلفائهم.
4. مصر 1973.. إنذار عاجل بتدخُّل السوفييت ضد إسرائيل!
بعد هزيمةٍ قاسية في نكسة عام 1967، تطلع القادة المصريون إلى تحقيق التعادل مع إسرائيل. وفي عام 1973، نفّذت مصر التي كانت في تلك المرحلة الحليفة الرئيسية للسوفييت والعمود الفقري للتمركز السوفيتي في الشرق الأوسط، هجوماً مفاجئاً على إسرائيل في بداية يوم الغفران.
وبالرغم من تحقيق مصر وحلفائها مكاسب كبيرة، فقد تعافى الإسرائيليون بما يكفي لشنّ الهجوم المضاد. في النهاية استطاعوا تطويق وتهديد الجيش الثالث الميداني المصري بأكمله فيما عرف باسم “ثغرة الدفرسوار”.
فيما حاول هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي، كبح جماح الإسرائيليين، حاول الكرملين إنقاذ مصر بحلٍ جديد متمثِّل في تدخُّل عسكري أمريكي سوفيتي مشترك للفصل بين الأطراف المتحاربة.
أدرك الأمريكيون على الفور حقيقة عرض الكرملين: محاولة إدخال القوات السوفيتية إلى الشرق الأوسط. رفضت واشنطن. ولاحقاً هددت القيادة السوفيتية بالتدخُّل من جانبٍ واحد، وأرسلت إلى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون رسالة وصفها كيسنجر لاحقاً بأنَّها أحد أخطر التحديات التي يواجهها البيت الأبيض على الإطلاق من موسكو.
كان نيكسون قد أصيب بالضعف في أواخر عام 1973 قبل أقل من عام من الاستقالة التي أرغم عليها بسبب فضيحة ووترغيت، الأمر الذي ربما يكون قد دفع بالخطوة السوفيتية العدوانية.
ومع ذلك، استجاب فريق الرئيس في البيت الأبيض من خلال وضع الجيش الأمريكي، بما في ذلك القوات النووية الاستراتيجية الأمريكية، في حالة التأهُّب القصوى. ومن المحتمل أنها كانت مجرد خدعة من السوفييت.
لاحقاً نفى مستشار سوفيتي سابق في ذلك الوقت وجود أي خطط سوفيتية للغزو قيد التنفيذ. وسواءً كانت جادة أم لا، فقد تخلَّى السوفييت عن الفكرة. وبعد بضعة أسابيع، خفض الأمريكيون بهدوء حالة تأهبهم.
ولو أن القوات السوفيتية دخلت المنطقة وانتهى بها الأمر في مواجهةٍ مباشرة مع الإسرائيليين، لاختلفت الأمور تماماً.
5. لا تقلقوا هذا مجرد تدريب! أوروبا 1983
حدث آخر تحذير رئيسي في الحرب الباردة بالصدفة، ولم يعرف العامة عنه شيئاً لعقود، وفي الحقيقة، لم يدر به أيضاً معظم حلفاء أمريكا في حلف الناتو نفسه، برغم تورطهم.
ففي عام 1983، كانت العلاقات بين أمريكا والاتحاد السوفيتي باردة كما كانت في أيّ وقتٍ مضى، حيث دُفِعَت إدارة الرئيس رونالد ريغان لسياسة مواجهة قوية مع الرئيس السوفيتي يوري أندروبوف الرئيس السابق للاستخبارات الروسية.
بدأ العام متوتراً، ففي مارس/آذار تحدث رونالد ريغان عن “إمبراطورية الشر”، وبعدها بستّة أشهر، أسقط الاتحاد السوفيتي طائرة ركاب مدنية ضلّت طريقها ضمن منطقة جوية سوفيتية محظورة.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، أجرت أمريكا وحلف الناتو تدريباً باسم “ABLE ARCHER”. كانت هذه لعبة حرب مصممة لاختبار قنوات الاتصال بين أمريكا وأوروبا أثناء الانتقال من العمليات التقليدية إلى العمليات النووية في الحرب العالمية الثالثة المتوقّعة.
في ذلك الوقت كان أي تحرُّك بسيط من جانب السوفييت أو الامريكان يفهم من الطرف الآخر على أنّه محاولة للنيل منه أو محاولة لبدء حربٍ نووية.
وبالرغم من أن حركة حلف الناتو كانت مشفرة فقد بدأت كل رسالة بكلمة “تدريب” التي افترض قادة أمريكا وحلف الناتو أن السوفييت يمكن أن يتعرفوا عليها.
وبدلاً من ذلك، سرعان ما أدرك ضبّاط المخابرات الأمريكية أن الاتحاد السوفيتي كان يتفاعل مع شفرة “ABLE ARCHER” كما لو كان يستعدُّ بالفعل لضربةٍ نووية أولى من حلف شمال الأطلسي بدعمٍ أمريكي.
ومع أن الاستراتيجيين السوفييت كتبوا في كثيرٍ من الأحيان عن احتمال أن تشنّ أمريكا حرباً تحت ذريعة التدريبات، لم يعتقد أحد بجدية أن الكرملين يعتقد أن الغرب سيشعل حرباً من العدم، وبالتأكيد لن يفعل ذلك في وضعٍ غير موات من حيث الرجال والأسلحة.
أثار رد الفعل السوفييتي قلق الأمريكيين، وقد اكتشف رد الفعل هذا البريطانيون خلال التمرين العسكري. قلقت أمريكا بالطبع، فأوقفوا حركة المرور بينهم وبين أوروبا، فتراجع السوفييت عن استعداداتهم الانتقامية.
كان من الممكن أن تؤدي كل واحدة من هذه الأزمات الخمس السابقة إلى اندلاع حريقٍ عالمي، وكان من الممكن أن تؤدي الأزمات السابقة لتلك الأزمات الخمس، مثل حصار برلين عام 1948 أو الهجوم الكوري عام 1950، إلى نشوب حرب مدمرة، لكنها حدثت قبل أن تطوِّر القوى العظمى مخزونات ضخمة من الصواريخ العابرة للقارات المسلحة نووياً.
حُلت كل أزمة في نهاية المطاف لصالح السلام، لكن في كل حالة اعتمد كلا الطرفين على المقامرة السياسية والعسكرية، ونجا بالحظ بقدر ما نجا بالاستراتيجية. ولكن في مرحلةٍ ما، ينفد الحظ. ولا يسعنا إلا أن نأمل، بعد مرور أكثر من 30 عاماً على آخر أزمة في الحرب الباردة، أن يفكّر العالم بعقلانيةٍ أكثر!