المشهد اليمني الأول/
يقدّم لنا نموذج القائد التاريخي جمال عبدالناصر بعد نصف قرن من الرحيل مسيرة رجل من أبناء الفقراء والبسطاء وفي موقع عادي في هرميّة مؤسسات الدولة والمجتمع تحمّل المسؤولية عندما رأى وطنه يحتضر ويُهان وشعبه يجوع والأجنبي يهيمن على القرار والثروات، فلم يسأل عن تبعات التحرك والمواجهة وخاضها حتى النهاية بكل ما أوتي من قوة، من دون أن ينتظر عشيرة أو حزبا أو دولة يدعمونه، مستعداً لتحمل المخاطر بأعلى تجلياتها وهو زوج وأب وموظف.
خلال توليه المسؤولية قدّم لنا جمال عبدالناصر نموذج المسؤول الصادق الذي بقي أميناً لما أعلن من مبادئ، والذي بذل كل جهد ممكن للتعلّم والتزوّد بالمعارف والتواضع في كسب الخبرات وسماع الآراء حتى اختار أفضل ما يخدم قضية شعبه وبلده وأمته وبذل في سبيله وقتاً وجهداً وتضحيات، فكانت معارك وحروب وحصار وعقوبات، وولدت مشاريع بحجم مصانع التعدين والسد العالي وقرارات بحجم تأميم قناة السويس وتوزيع الأراضي على الفلاحين.
خلال مسؤولياته الجسام خاض عبدالناصر حرباً وخسرها، فما كان منه إلا أن قدّم استقالته مستعداً لتحمل تبعات الهزيمة، وقد قدم في سيرته الشخصية مثالاً استثنائياً حول الزهد بالمال والترفع عن المكاسب الشخصية له ولعائلته وعاش حياة البسطاء وغادرنا. وهو كما دخل الحكم بجيوب فارغة.
عظمة المثال في كونه لا يترك عذراً لأحد، فيقول بالوقائع أن كل شيء ممكن، فهو يقول لشبابنا تحمّلوا المسؤولية ولا تقيسوا قراراتكم في قضايا أوطانكم بحجم ما بين أيديكم وبضمانات الفوز مسبقاً.
فحاولوا وتشجعوا وتحملوا التبعات، والنجاح ممكن دون عشيرة أو حزب أو دولة يقفون وراءكم، ويقول لمن يتولى المسؤولية أي مسؤولية، أن تغيير حياة الناس أمر ممكن، وأن تغيير حال الوطن أمر ممكن، وأن مواجهة الحصار والعقوبات أمر ممكن، ويقول لكل من يتعاطى الشأن العام أن الجمع بين العمل العام والأخلاق أمر ممكن، وكل من يقارن قرارات عليه الحسم بشأنها ويخامره بعض اليأس والتردّد مدعوّ لتخيل ماذا واجه جمال عبد الناصر وكيف اتخذ قراراته.
يستطيع الناس الاختلاف في تقييم تجربة حكم جمال عبدالناصر، و/أو في صواب قراراته، لكن أحداً لا يستطيع أن يشطب من ذاكرتنا أنه كان عنوان المرحلة الذهبية في التاريخ العربي المعاصر، عندما صار للعرب والشرق والعالم الثالث كلمة.
_________
ناصر قنديل