المشهد اليمني الأول/
في مقال له في صحيفة التايمز البريطانية، طالب الكاتب الصحفي فيليب كولنز حكومة المملكة المتحدة بالتوقف عن بيع الأسلحة للسعودية.
وذلك لانتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة التي ترتكبها المملكة بهذه الأسلحة مستشهداً باعتراف الوزيرة ليز تراس -قبل أيام- أمام مجلس العموم بأن الأسلحة التي باعتها بريطانيا للسعودية استخدمت في اليمن بشكل يخرق القانون الدولي الإنساني.
وأوضح كولنز أن اعتراف تراس لم يكن بهذه الصيغة، ولكنها اعتمدت في تصريحاتها بحكم محكمة الاستئناف في الرياض بأنه كانت هناك “حوادث محدودة” من الغارات الجوية غير القانونية، مبررة قرار استئناف مبيعات الأسلحة للسعودية بعد عام من التعليق.
وانتقد كولنز قرار استئناف المبيعات معتبراً إياه وصمة عار في جبين المملكة المتحدة وحكومتها التي تدعي الحفاظ على حقوق الإنسان، وغير أخلاقي، مشيراً إلى قول إميلي ثورنبيري، نظيرة تراس في حكومة الظل، إلى أن ذلك الاعتراف بالمسؤولية “لا يمكن الدفاع عنه أخلاقيا”.
وأضاف بأنه على ما يبدو كانت هذه الحوادث غير القانونية، حوادث محدودة، لدرجة أنه لا مانع الآن أن تستأنف بريطانيا منح تراخيص لتصدير الأسلحة والمعدات العسكرية للسعوديين.
في ذات السياق، رأى كولنز أن قرار استئناف المبيعات يناقض السياسة الخارجية للمملكة المتحدة، والتي بدأت تأخذ اتجاهاً صحيحاً في مجال الدفاع عن حقوق المضطهدين والمستضعفين، مشيداً بموقف وزير الخارجية، دومنيك راب، والذي قام بتقديم عرض سخي لمواطني “هونغ كونغ” الذين تقمعهم الصين، إلى جانب معارضته خطط الضم بالضفة الغربية المحتلة، وإعلان وزارته عقوبات ضد منتهكي حقوق الإنسان بما فيهم 25 روسيا على صلة بمقتل سيرغي ماغنيتسكي، و20 سعوديا متورطين بمقتل الصحفي جمال خاشقجي.
وعلق على توجه الخارجية البريطانية قائلاً “هذه مؤشرات مبكرة على سياسة خارجية متسقة وأخلاقية، وهو ما يجعل استئناف بيع الأسلحة للسعودية ارتكاسا محزنا”.
وأشار الكاتب في مقاله أن السعودية تعتبر “سوق كبيرة للأسلحة البريطانية”، حيث تشتري أكثر من نصف الأسلحة المصدرة، وأنه ما بين أبريل/نيسان 2015 مارس/آذار 2018 رخصت الحكومة بيع معدات عسكرية للسعودية بما لا يقل عن 4.7 مليار دولار و860 مليونا أخرى لحلفائها في المنطقة.
العدوان السعودي الأمريكي على اليمن
وبحسب الكاتب، فإنه من السذاجة أن “نغض الطرف عن كيفية استخدام هذه الأسلحة، خصوصاً وأن الحرب العدوانية المروعة في اليمن تسببت في وقوع أعداد مهولة من الضحايا، لم يتم تحديدها بدقة، ولكنها بالتأكيد تقدر بعشرات الآلاف إن لم تكن بمئات الآلاف”.
وكانت الأمم المتحدة قد وصفت الوضع في اليمن بأنه “أسوأ كارثة إنسانية من فعل البشر… لقد علمنا مسبقا والآن لدينا شهادة وزيرة التجارة بهذا الشأن، حيث اعترفت بأن حالات القتل تلك ارتكبها سفاحون بأسلحة بريطانية”، على حد تعبير كولنز.
وتابع: “مبيعات الأسلحة تلك ليست الأولى من نوعها للمملكة المتحدة، والحرب في اليمن تعد أحدث الكوارث التي تسببت فيها الأسلحة البريطانية، حيث تم تصدير الأسلحة لأنظمة تقتل شعوبها كما في البحرين وليبيا والجزائر واندونيسيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية”.
وأضاف “لم أسمع وزيرا قط، في العلن أو في السر، استطاع الدفاع عن هذه السياسة أو تبريرها بشكل مقنع”، متابعاً “هناك دائما حجتان يتم استخدامهما من الذين يسمون أنفسهم “الواقعيين” في تجارة السلاح، الأولى اقتصادية والثانية الواقعية.
وكلاهما غير مقنع ولا قوي. فليس هناك حاجة لأن نكون متورطين في هذه التجارة القذرة” -على حد وصفه.
وأردف قائلاً: “الحجة الاقتصادية غير قوية، حوالي 0.2 بالمئة فقط من القوة العاملة البريطانية تعمل في تصنيع الأسلحة للتصدير، كما أن تجارة الأسلحة تشكل 1.5 بالمئة من مجموع الصادرات البريطانية وحتى هذه النسبة القليلة تحتاج إلى 5 ملايين جنيه من الدعم الحكومي سنويا.
هذه تجارة نستطيع أن نتدبر أمورنا دونها، وليس خارج إمكانياتنا أن ننشئ خططا لخلق وظائف بهدف تقليل الضرر على من ستتأثر وظائفهم من وقف هذه التجارة.. أنا لست متحمسا لأن يفقد أحد عمله، ولكن على المستوى القومي هذه التجارة ليست ضرورية”.
الحجة الثانية، أو رد “الواقعيين” القائل بأن “حتى لو قررنا أن نتخلى عن المنافع الاقتصادية من بيع الأسلحة، فإن الآخرين لن ينضموا إلينا في موقفنا الأخلاقي العالي… ستنتقل التجارة ببساطة إلى أمريكا أو الصين أو روسيا، ولن يكون هناك تقدم أخلاقي في العالم لمجرد أننا توقفنا عن إمداد السعودية بالأسلحة”
وعلق كولنز على هذا القول قائلاً “لا شك لدي بأن هذا ما سيحدث، ولكن ما الضير؟ فأنا لا أحاول أن أجعل كل العالم يغني أغنية (إيماجين) [لجون لينون حول السلام]، ولكني أقترح أنه يجب على بريطانيا أن تكون بأفضل ما تستطيع أن تكون عليه”.
واستطرد قائلاً “إن كان بيع الأسلحة للاستخدام ضد المدنيين في اليمن خطأ، فإنه لا يصبح صحيحا إن كانت هناك دولة أخرى لديها الاستعداد لأن تفعل ذلك”.
من الجدير بالذكر أن الصين بدأت ببيع الأسلحة لبلدان مثل إيران وفنزويلا والسودان وزمبابوي والتي لن يمدها أي من الدول الغربية، أما أمريكا فهي تصدر ثلث أسلحة العالم تستمر في بيع الأسلحة لأكبر زبائنها، السعودية، ولكن قرارات أمريكا والصين اللاأخلاقية لا تتطلب منا أن نفعل الشيء نفسه – هكذا علق كولنز.
في عام 2014 دخلت اتفاقية تجارة السلاح حيز التنفيذ بهدف تنظيم التجارة الدولية بالأسلحة التقليدية، وأي بلد يستمر في بيع السلاح للسعودية سيجد من الصعب عليه أن يصر على ألا تخرق الاتفاقية.
وأشار كولنز إلى موقف بعض الدول الأوروبية من تجارة الأسلحة، حيث قال إن دول أخرى كثيرة مثل النرويج وهولندا والسويد وألمانيا باتخاذ قرار بتقييد مبيعات الأسلحة للمنطقة، مشيراً إلى “إن كنا لا نريد أن ننهي تجارة الأسلحة تماما، وهو ما يسعدني فعله، فيمكن أن نفرض معايير أكثر صرامة للبلدان التي يمكننا التجارة معها.
ومن أكبر زبائن فرنسا مصر والهند، اللتان تتعاملان أيضا مع روسيا”، مؤكداً أنه “ليس هناك حاجة لذلك… فالكلفة الاقتصادية صغيرة ولكن الكلفة الأخلاقية عالية، وهذا اختيار ليس صعبا”.
واختتم كولنز مقاله بالإشارة مرة أخرى إلى المواقف الأخلاقية العالية التي اتخذتها الخارجية البريطانية في الفترة الأخيرة، كمساعدة ضحايا هونغ كونغ من القمع الصيني، ومعارضة خطط إسرائيل بضم الضفة الغربية وفرض عقوبات ضد منتهكي حقوق الإنسان، قائلاً بأنها مواقف أكسبت الحكومة سمعة طيبة فيما يتعلق باحترام القيم الليبرالية والديمقراطية،.
وستجعل من بريطانيا دولة ذات مسموع كدولة تلتزم بمبادئها، إلا أنه – وبحسب كولنز- ستفقد المملكة المتحدة هذا الصوت إذا استمرت في بيع الأسلحة لأطراف ترتكب القتل الجماعي في اليمن، حتى لو كانت تلك حوادث معزولة (محدودة)، فإنها ليست معزولة بما يكفي.