المشهد اليمني الأول/
جلس ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قبالة صحفيين من وكالة بلومبيرغ الأمريكية للحديث عن مشاريعه الإقتصادية القادمة. حينها وضع الرجل أمامه ملفات ورقية والتقط قلماً حبرياً ثم أحنى ظهره قليلاً للأمام وشرع يتحدث عن السعودية كما يراها في 2020.
بدا ابن سلمان آنئذ طموحاً جداً، ولا ضير في ذلك بل هو مطلوب، لكن الطموح في الحالة السعودية وتحديداً السلمانية لا يتجاوز حدود أحلام اليقظة كونه لا يقترن بالتخطيط والتنظيم وإجراء الحسابات والدراسات الدقيقة.
زينب فرحات امتدّ وقت الجلسة لساعات طويلة، قال فيها ابن سلمان الكثير من الأشياء لكن شيئاً منها لم يتحقق، بإستثناء شيء واحد وهو خفض رواتب موظفي الدولة التي كانت تستحوذ على 50 في المائة من ميزانية البلاد بين عامي 2015 و 2016، والهدف أن تصبح أقل من 40 في المائة في 2020 بحسب قوله.
مؤخراً أدى مضاعفة ضريبة القيمة المضافة ورفع أسعار الوقود لفضح حجم التخبّط الذي يعيشه الرجل وفشله الذريع في إدارة البلاد. ذلك أنه كان قد قال في الجلسة آنفة الذكر أنه لن يكون هناك أي فرض ضرائب جديدة حتى عام 2030 بالإضافة إلى أن معدل البطالة سيبدأ في الانخفاض بدءاً من عام 2019 حتى يصل إلى 7 في المئة عام 2030 على النحو المستهدف في الـ”رؤية”.
زيادة القيمة المضافة دخل قرار زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 5 إلى 15 بالمئة حيّز التنفيذ في 1 يوليو/ تموز الحالي، في سياق حملة تقشّف “مؤلمة” بحسب وصف وزير المالية محمد الجدعان، صاحبها خفض الدعم لحساب المواطن، وإلغاء ترقيات وإمتيازات الموظفين بالإضافة إلى تسريح الكثير منهم.
مع العلم أن الضرائب التي فرضتها الدولة النفطية الثرية جداً تتفوّق بضعفين على تلك التي لدى جارتيها البحرين والإمارات رغم محدودية إقتصاد البلدين. ففي حين تفرض البحرين ضرائب القيمة المضافة بنسبة 5 بالمئة وتعفي المواد الغذائية الأساسية والمواد الطبية والنقل البري والجوي والنفط والغاز، تلتزم الثانية عدم إقرار أي ضرائب جديدة على الضرائب المقرة مسبقاً بقيمة 5 بالمئة. أثارت الضرائب التي فرضت مؤخراً على القيمة المضافة سخط المواطنين عبر مواقع التواصل الإجتماعي رغم هامش التعبير المحدود جداً.
وعمّ التساؤل الأبرز حول مصير عائدات ضرائب القيمة المضافة وكيفية تصريفها. وللحق أنه ليس ثمة ما يبعث على الإطمئنان في أن هذه العائدات ستذهب حصراً لخزينة الدولة فقد سبق وأن أعلن محمد بن سلمان أنه استعاد 35 مليون دولار من تسويات الفساد لكنها اختفت ولم يُعرف حتى الآن على كيف صُرفت وأين. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن اللجوء للضريبة على القيمة المضافة مباشرةً هو خطوة غير مدروسة، بل الأجدر بالدولة وفق محللين إقتصاديين أن تفرض ضرائب الدخل التصاعدية بحيث يعفى أصحاب الدخل المحدود وترتفع قيمة جبايتها من أصحاب الدخل المرتفع. كما أنه في حال تقرر رفعها يفترض أن تُرفع تدريجياً على مدى سنوات ليس كما حصل في السعودية حيث قفزت فجأة من 5 إلى 15 بالمئة ولا تزال قابلة للإرتفاع، بحسب الإقتصاديين أيضاً. لكن المستغرب أن السعودية استخدمت الإجراءات التقشفيّة رغم أنها تتمتّع بمصادر دخل قوية بإمكانها أن تسد عجز الخزينة إذ ما جرى صرفها بالمكان الصحيح.
كعائدات النفط بالدرجة الأولى وإمكانية استخراج المعادن، عائدات المؤسسات الحكومية، الفنادق، المطارات، بالإضافة لأموال الزكاة والحج (تم إيقافه هذا العام) وغيرها. بيد أن ذهاب السلطات رأساً إلى زيادة الضرائب دون النظر بالبدائل الأخرى ما هو إلا دليل على أن الإقتصاد السعودي قد وُضع على سكة الإنهيار انطلاقاً من نظرية ابن خلدون الشهيرة “عندما تكثر الجباية تشرف الدولة على النهاية”. زيادة أسعار البنزين من جملة الإجراءات التقشفية أيضاً زيادة أسعار البنزين التي دأبت شركة النفط العملاقة “أرامكو” مؤخراً على إعلانها في العاشر من كل شهر، وقد قالت أرامكو في 10 يوليو/ تموز الحالي في بيان رسمي لها إن بنزين 91 أصبح بـ 0.98 ريال لكل لتر، وبنزين 95 أصبح بـ 1.18 ريال لكل لتر.
بعدما كانت أسعار شهر يونيو/ حزيران كالتالي: “بنزين 91: 0.90 ريال لكل لتر”، و”بنزين 95: 1.08 ريال لكل لتر”. تزامن هذا الإجراء مع الإنكماش الإقتصادي الذي تمر به البلاد، فقد توقّع صندوق النقد الدولي انكماش إجمالي الناتج المحلي للسعودية، بنسبة 6,8 في المئة هذا العام، في أسوأ آداء له منذ ثمانينيات القرن الماضي. فيما توقّعت مؤسسة كابيتال إيكونوميكس الاستشارية ارتفاع التضخم إلى 6 بالمئة خلال يوليو/ تموز الحالي بعدما كان 1.1 خلال مايو/ أيار الفائت. خفض دعم صندوق المواطن التقشّف طال أيضاً “صندوق دعم المواطن” إذ جرى خفض قيمة الدعم الشهري المقدم للمستفيدين، وقد أكّد مستفيدون أنهم تلقوا مبلغ الدعم الخاص بـ “حساب المواطن” أقل من المعتاد، حيث تراوح مبلغ الخصم ما بين 50 ريالًا إلى 200 ريال.
الأمر الذي دفع لسيل من التساؤلات بين نشطاء مواقع التواصل الإجتماعي حول أسباب هذا الإجراء فردّ “حساب المواطن” قائلاً: “الدعم المقدم من برنامج حساب المواطن يتغير بناءً على الارتفاع والانخفاض نتيجة المراجعة الدورية لأسعار الطاقة، ولمعرفة قيمة الاستحقاق في حساب المواطن بإمكانك استخدام حاسبة الدعم التقديرية”.
جاء ذلك بعدما كان حساب المواطن قد أقرّ مؤخراً عدداً من الضوابط الجديدة التي شملت الفرد المستقل، تعليق التسجيل في البرنامج للمستفيدين الجدد إلى جانب تحديد الحد الأعلى للاستحقاق، وتضمنت كذلك تعليق استقبال أي طلبات جديدة للمتقدمين للحصول على الدعم من خلال برنامج حساب المواطن بعد تاريخ صرف الدعم للدورة (28) من شهر مارس/ آذار القادم.
استخدمت السلطات السعودية جائحة “كورونا” مطيّة لتبرير إخفاقاتها في هندسة سياساتها المالية خلال السنوات الأخيرة. فصحيح أن الجائحة أثّرت على إقتصاد معظم دول العالم نظراً لتوقف النشاط التجاري، وصحيح أن إلغاء الحج حجب عن خزينة الدولة مليارات الدولارات التي كانت تجنيها سنوياً، إلا أن الأزمات الإقتصادية في السعودية ليست وليدة الساعة على الإطلاق إنما هي نتيجة مسار طويل من الفشل الذي انطلق منذ سنوات وقد بلغ ذروته الآن. يكفي إلقاء نظرة واحدة على مقابلات ابن سلمان عند إعلان “رؤية 2030” لنتحسّس مأساة الوضع الإقتصادي حالياً.
كانت عينا ابن سلمان تبرق عندما يشرع في وصف مدينة “نيوم” كـ”دولة صغيرة ضمن دولة كبيرة”، حتى أعلن أن البلدة الأولى في المنطقة التي تدعى “نيوم ريفيرا” ستكون موجودة في عام 2020 ثم “سيكون لدينا من اثنتين إلى ثلاث بلدات في نيوم كل عام. ستكون مدينة نيوم مكتملة في عام 2025″، والكلام لمحمد بن سلمان. لقد حلّ عام 2020 دون أن يحمل شيئاً من وعود ابن سلمان، إنما ليفتح مصدر دخل جديد للدولة من جيب المواطن دون أن يعرف أحد إذا ما كانت هذه الأموال ستصل حقاً إلى الخزينة!