المشهد اليمني الأول/
تأسس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بموجب اتفاقية بريتون وودز في عام 1944، ويكمن الاختلاف الرئيسي بينهما في أهدافهما ووظائفهما؛ إذ يركز صندوق النقد الدولي على «تعزيز الاستقرار المالي والتعاون في المجال النقدي»، في حين يركِّز البنك الدولي على مهام التنمية الأطول مدى، والحد من الفقر من خلال تقديم المساعدة للبلدان متوسطة ومنخفضة الدخل، هذا هو التعريف الرسمي، أما في عالم الواقع فالأمر مختلف تمامًا.
على الرغم من أن البنك الدولي وصندوق النقد يجادلان بأن نهجهما الاجتماعي مؤيد للفقراء، فإن العكس هو الصحيح، بحسب الباحث ستيفن كيد، وبينما يدرك من يديرون الاقتصاد العالمي أن المنظومة الدولية برمتها قد تنفجر في أي لحظة، فإنهم مستمرون على الدرب ذاته، بغض النظر عن المخاطر التي تلوح في الأفق، كما كتب لاري إليوت في صحيفة «الجارديان»، وبالطبع لا يعترف البنك الدولي ولا صندوق النقد بأن سياساتهما هي المشكلة، حتى لو أثبت باحثون أن هذه المؤسسات الدولية هي في الواقع «أكبر صناع الفقر في أفريقيا».
منذ سبعينيات القرن الماضي، أصبحت المؤسستان اللتان تتخذان من واشنطن مقرًّا لهما، المهندس الرئيس للسياسات المسؤولة عن انعدام المساواة وتفاقم الفقر في العالم، خاصة في أفريقيا. وبدأت المؤسستان الدوليتان التدخل في القارة في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وكان هدفهما المعلن هو «تسريع التنمية»، لكن سجلهما الفعلي أثبت أنه مجرد كارثة.
العلاقة بين استعباد الأفارقة بالأمس وتدهور اقتصاد القارة اليوم
كيف أصبحت أغنى قارات العالم من حيث الموارد الطبيعية موطن أفقر البشر على وجه البسيطة؟ لا يمكن تقديم إجابة عميقة وشاملة عن هذا السؤال، دون السفر عبر التاريخ إلى ما قبل عدة قرون في الماضي.
في القرن الرابع عشر الميلادي، صارت البرتغال أول دولة أوروبية تُشَغِّل العبيد الأفارقة في مزارع السكر قبالة ساحل غرب أفريقيا، في ساو تومي، ومنذ ذلك الحين، ظلَّت تلك التجارة المهينة هي النشاط الاقتصادي الرئيسي الذي تمول أوروبا من خلاله جهود العولمة المبكرة، حتى إلغاء العبودية في أواخر القرن التاسع عشر.
تشير التقديرات إلى أن 11 مليون شخص استُعبِدوا قسرًا في العالم الجديد، بالإضافة إلى أعداد مماثلة من الأفارقة بيعوا على مدى قرون، عبر الصحراء والبحر الأحمر والمحيط الهندي.
وفي ورقة بحثية نشرها أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، ناثان نون، عن العلاقة بين عبودية الأمس وتدهور أوضاع أفريقيا الاقتصادية اليوم، استنتج أن «البلدان الأفريقية الأكثر فقرًا اليوم هي تلك التي أُخِذَ منها معظم العبيد بالأمس».
حتى بعدما تحررت القارة من ربقة الاستعمار، وجدت نفسها مكبلة بسياسات التكيُّف الهيكلي التي يفرضها البنك الدولي وصندوق النقد ولا يستفيد منها الفقراء، وجعلتها الآن تحت رحمة الشركات متعددة الجنسيات، التي تتصرف بحرية تامة، خارج المتاهة الأخلاقية، بفضل أرصدتها المصرفية التي تفوق العديد من اقتصادات أفريقيا بعدة أضعاف.
بحسب تقرير «أونست أكاونتس»، الصادر عن مجموعة من المنظمات المدنية الأفريقية، فإن ما تخسره القارة من الأموال كل عام يفوق ما تتلقاه من المساعدات والاستثمارات والتحويلات؛ بل إن أكثر من ثلاثة أضعاف ما تتلقاه أفريقيا من مساعدات تستحوذ عليه الشركات متعددة الجنسيات، التي لا تفصح بصراحة عن قيمة وارداتها وصادراتها بهدف تخفيض ضرائبها.
إلى جانب هذه التدفقات المالية غير المشروعة، ينزف جسد القارة من أكثر من موضع، مثل: هجرة الأدمغة، وخدمة الديون، وتكاليف تغيُّر المناخ (ما يفسده الغرب يدفع ثمنه أفقر شعوب الأرض).
أضف إلى ذلك، النظم الاقتصادية والتجارية والمعلوماتية العالمية، من قوانين الملكية الفكرية غير العادلة إلى الصفقات التجارية، التي تجبر البلدان الأفريقية على فتح أسواقها أمام فائض إنتاج العالم الغني، وما يتمخض عن ذلك من تدمير قطاعي الزراعة والتصنيع المحليين.
ناهيك عن انعدام الشفافية، وغياب المساءلة، وضياع الأمن، وتبخُّر سيادة القانون، وتضخُّم القطاع العام، وسحق الشركات الصغيرة، وارتفاع معدلات البطالة، وتزايد العنف؛ العوامل التي تتضافر كلها لتبقي الأفارقة فقراء، أو تزيدهم فقرًا.
دعم البنك الدولي وصندوق النقد لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا
لم يتوقف أثر صندوق النقد والبنك الدولي على الوضع الاقتصادي فقط للدول الأفريقية، بل امتد لخرق القرارات الدولية ضد انتهاكات حقوق الإنسان.
ويرصد الباحثان إريك توسان وباتريك بوند كيف كان البنك الدولي وصندوق النقد شريكين في الفصل العنصري على مدار عقود، وانتهكا الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة على النظام العنصري الذي حكم جنوب أفريقيا.
بين عامي 1958 و1968، موَّلت قروض البنك الدولي المشروعات «الموالية للبيض»، مثل: محطة «إسكوم» التي توفر الكهرباء للبيض فقط، وقسم من شبكة السكك الحديدية (موانئ/ سكك حديد جنوب أفريقيا) التي لا يستطيع السود الوصول إليها إلا إذا أثبتوا أنهم كانوا يعملون في مدينة متصلة بالشبكة (كان عليهم إصدار تصريح سفر).
في عام 1965، تحدى البنك مباشرة القرار الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1964، الذي أوصى جميع الوكالات التابعة للأمم المتحدة – ومنها البنك الدولي – بوقف الدعم المالي لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لانتهاكه ميثاق الأمم المتحدة.
بيد أن البنك تذرَّع بأنه ليس ملزمًا قانونًا بتطبيق قرارات الأمم المتحدة، وحتى المناشدة الشخصية التي قدمها يو ثانت، الأمين العام للأمم المتحدة، لجورج وودز، رئيس البنك الدولي آنذاك، ذهبت سدى.
منذ عام 1961، عندما نالت معظم الدول المستعمَرة استقلالها، وأصبحت أعضاء في الأمم المتحدة، اعتمدت الجمعية العامة في مناسبات عديدة قرارات تدين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وهيمنة البرتغال على العديد من الدول الأفريقية والآسيوية.
وفي عام 1965، نظرًا إلى استمرار الدعم المالي من البنك الدولي وصندوق النقد لهذه الأنظمة، قدَّمت الأمم المتحدة طلبًا رسميًّا «إلى جميع الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، لاسيما البنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي (…) بالامتناع عن منح البرتغال أي مساعدة مالية أو اقتصادية أو تقنية؛ طالما لم تتخل الحكومة البرتغالية عن سياستها الاستعمارية، التي تشكل انتهاكًا صارخًا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة»، وأصدرت الأمم المتحدة طلبًا مماثلًا بشأن جنوب أفريقيا.
اجتمع مجلس إدارة البنك الدولي لاتخاذ موقف، وقررت غالبية المديرين التنفيذيين مواصلة تقديم القروض. لتبرير هذا القرار، احتجُّوا بالمادة العاشرة في القسم العاشر من النظام الأساسي للبنك، التي تحظر التدخل السياسي، وصوتت جميع البلدان الصناعية، مدعومة بعدد معين من بلدان أمريكا اللاتينية، على مواصلة القروض.
وفي عام 1966، وافق البنك الدولي على قرض بقيمة 10 ملايين دولار للبرتغال، وقرض بقيمة 20 مليون دولار لجنوب أفريقيا، وعلى الرغم من الإدانات والحملات المنادية بفرض عقوبات مالية، منح صندوق النقد الدولي نظام الفصل العنصري ملياري دولار خلال عقد السبعينيات.
استنادًا إلى ماسبق، يخلص الباحثان إريك توسان وباتريك بوند إلى أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كانا شريكين مع نظام الفصل العنصري القمعي في جنوب أفريقيا بدعمهما المالي والاستراتيجي، على الرغم من المعارضة الدولية الواضحة.
للمضاربين الأرباح.. وللشعوب التقشف!
تراقب «حملة اليوبيل للديون» اقتصاد غانا عن كثب، الذي نما بقوة بعد اكتشاف النفط وارتفاع أسعار السلع الأساسية، لكنه تعرض للانهيار لاحقًا.
اقترضت غانا المزيد من الأموال لتخفيف تأثير انخفاض أسعار السلع، لكن خفض قيمة العملة المحلية إلى النصف، يعني أن تكاليف خدمة الديون قد زادت. وينفَق ما يقرب من ثلث ميزانية غانا على خدمة الدين الخارجي.
في أوائل عام 2015، قال صندوق النقد والبنك الدولي إن غانا معرضة لخطر كبير لعدم قدرتها على سداد ديونها، بعد سبعة أشهر، كفل البنك الدولي سداد 400 مليون دولار، مقابل سندات بقيمة مليار جنيه إسترليني بيعت للمستثمرين من القطاع الخاص.
قال البنك الدولي إنه كان يحاول المساعدة في إعادة تمويل الديون قصيرة الأجل باهظة الثمن، وتحرير الموارد التي يمكن استخدامها في الاستثمار، لكن الفائزين في هذا الترتيب هم المضاربون الذين يحصلون على عائد بنسبة 10.75%، والذين سيحصلون على الأموال حتى لو لم تستطع غانا سداد القرض، بسبب ضمان البنك الدولي.
وسيكون الخاسرون هم الشعب الغاني الذي سيخضع للتقشف، وفقًا لشروط برنامج صندوق النقد الدولي، كما كتب لاري إليوت في صحيفة «الجارديان».
يقول الباحث الاقتصادي، هربرت جاوش: «كانت البلدان النامية غير قادرة على سداد قروضها، وأجبرت على طلب قروض جديدة لدفع فوائد القروض القديمة، في عام 1980 بلغ مجموع ديون البلدان النامية 567 مليار دولار، وبين عامي 1980 و1992 دفعت هذه الدول 1662 مليار دولار».
مع ذلك، وبسبب ارتفاع أسعار الفائدة، زادت الديون إلى 1.419 تريليون دولار في عام 1992، على الرغم من السداد، أجبر ارتفاع أسعار الفائدة القسري الدول النامية على الحصول على قروض جديدة لتجنب الإفلاس.
واستنزف تسديد الديون نحو 160 مليار دولار سنويًّا من البلدان النامية، منذ الثمانينيات، صار تسديد الديون هو الآلية الرئيسية لنقل الثروة من الجنوب إلى الشمال، بحسب جاوش.
انتقادات الخبراء من داخل المؤسسات العالمية
تعرَّض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى الكثير من الانتقادات على مر السنين، حسبما يرصد مجلس العلاقات الخارجية.
يسرد اقتصادي البنك الدولي السابق، ويليام إيسترلي، لائحة اتهام مطوَّلة للجهود الغربية للحد من الفقر، في كتابه «عبء الرجل الأبيض» الصادر عام 2006، قائلًا: «خطة إنهاء الفقر في العالم تفضح ذرائع الهندسة الاجتماعية الطوباوية. ومحاولات البنك الدولي لفرض سياسة الأسواق الحرة بسرعة على البلدان النامية في الثمانينيات والتسعينيات، والمعروفة باسم «العلاج بالصدمة» الاقتصادية، أسفرت عن «سجلٍ من الفشل» في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، ودول الاتحاد السوفيتي السابق.
وحين استقال جوزيف ستيجليتز، أحد أكثر منتقدي البنك الدولي صخبًا، من منصبه كبيرًا للخبراء الاقتصاديين في المؤسسة في عام 1999، انتقد دعوة البنك لما يسميه «أصولية السوق الحرة» في العديد من البلدان النامية، وأكد أن الإصلاحات الاقتصادية التي طلبها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من بين الشروط لتقديم القروض – ما يسمى إجماع واشنطن للتقشف المالي، وارتفاع أسعار الفائدة، وتحرير التجارة، والخصخصة، وأسواق رأس المال المفتوحة – جاءت في كثير من الأحيان بنتائج عكسية على الاقتصادات المستهدفة، وأسفرت عن تداعيات مدمرة على الشعوب.
وهو ما يربط بين مشروطية الإقراض العشوائية وبداية الأزمات المالية في شرق آسيا في عام 1997، والأرجنتين في عام 1999.
لكن ما يظهر لنا اليوم، رغم كل ما ارتُكب في حق القارة، أن العديد من الدول الأفريقية لم تتعلم من ذلك التاريخ الأسود لمؤسستي البنك الدولي وصندوق النقد، وما زلنا نسمع عن العديد من الدول الأفريقية التي تقترض من صندوق النقد الدولي، والتي كان آخرها مصر وتونس.