المشهد اليمني الأول/
نشرت مجلة “بوليتيكو” الأمريكية، تقريراً سلطت فيه الضوء على دور إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إخفاء حقيقة السياسات السعودية التي يتبناها ولي العهد محمد بن سلمان بسبب العلاقة الخاصة بين الأمير الشاب وترامب.
وأوضحت المجلة، أن العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية استراتيجية منذ توقيع الاتفاقية بينهما قبل 75 عاماً، مستدركةً: “لكن تلك العلاقة تمر الآن بمرحلة يصفها المدير الأسبق للمخابرات المركزية CIA بأنها خطيرة لاعتمادها على المراهنة على شخص بعينه، دون وجود معلومات كافية عما يحدث بالفعل في كواليس الأسرة المالكة”.
وحسب المجلة، قدَّم بروس ريدل، المستشار السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي والمحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، ملاحظتين رئيسيتين بشأن أهم حليف للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، المملكة العربية السعودية، وذلك في اجتماع عُقد بـ”معهد بروكينغز” في واشنطن العاصمة يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
وقالت المجلة: “الملاحظة الأولى هي أنَّ السعودية شهدت في الآونة الأخيرة مرحلة تغيير مقلقة، إذ تحوّلت من دولة معتمة بشكل طبيعي لكن يُمكن التنبؤ بسياساتها إلى دولة متقلّبة وغير متوقعة للغاية”.
وأضافت: “الملاحظة الثانية هي أنَّ البيت الأبيض قرَّر على ما يبدو منح دعمه الكامل للقيادة السعودية الحالية بدون بذل أي جهد جدي لفهمها، وقال ريدل إنَّ الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أطلق يد السعودية في سياساتها الداخلية والخارجية”.
صدمة الربيع
وأشارت المجلة، إلى أن السعودية أرسلت هذا الربيع صدمة ترددت أصداؤها عبر جميع أنحاء العالم عندما شرعت في حرب نفطية كارثية من الناحية الاقتصادية مع منافستها البترولية، روسيا، أدّت إلى تراجع الأسواق العالمية تزامناً مع بدء توقف النشاط الاقتصادي العالمي بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد.
وقبل ذلك بفترة قصيرة، نفّذت الحكومة السعودية عملية تطهير جذرية بقيادة ولي العهد الشاب، الأمير محمد بن سلمان، الذي يحظى بدعم إدارة ترامب، فماذا حدث؟ من توقّع حدوث كل هذا؟ وماذا يقول هذا السلوك عن شخص اختارته إدارة ترامب ليكون حليفاً لها؟، وفق المجلة.
قرارات ولي العهد
ويشير مراقبون مخضرمون، مثل ريدل، إلى أنَّ إدارة ترامب تبنت محمد بن سلمان بنفس الطريقة التي تبنت بها إدارة باراك أوباما محمد بن نايف، ولي العهد السابق، وجاءت النتائج قاتمة.
ورَّط بن سلمان الولايات المتحدة في مستنقع اليمن، وأصدر أوامر بقتل صحفي سعودي معارض كان مقيماً في الولايات المتحدة، وزعزع استقرار أسواق الطاقة، وتودّد إلى منافسي الولايات المتحدة: روسيا والصين وإيران.
وتفتقر المملكة السعودية إلى الشفافية الداخلية ولا يخضع حكّامها للحد الأدنى من المساءلة، وفي ضوء ذلك، اعتمدت السياسة الأمريكية طويلاً على جمع المعلومات الاستخباراتية لتحديد الدوافع الحقيقية للسياسات السعودية وديناميكيتها الداخلية.
ومع ذلك، يشير مسؤولون مُطّلعون، مثل ريدل، إلى أنّ مجتمع الاستخبارات الأمريكي، لاسيما في ظل آخر ثلاث مدراء لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، تبنّى نهجاً مُسيَّساً للغاية تجاه المعلومات الخاصة بالسعودية، فبدلاً من طرح أسئلة صعبة وتعزيز جهود جمع المعلومات، كان قادة جهاز الاستخبارات يضعون الاستنتاجات، ثم يبتعدون عن أية معلومات تُفضي إلى حقائق تتعارض مع استنتاجاتهم.
يبدو أن هذا الاتجاه مستمر حتى الآن. وفقاً لتقارير إعلامية مؤخراً، حثّ مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي الحالي والمدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، مسؤولين بالوزارة إلى إيجاد طريقة لاختلاق “حالة طوارئ” لتمرير صفقة بيع أسلحة -رفضها الكونغرس- بقيمة 8 مليارات دولار إلى السعودية العام الماضي، وفق المجلة.
دعم ترامب المطلع لابن سلمان
وأضافت المجلة: “لا تحتاج عملية تسييس المعلومات الاستخباراتية لتقويض الحقيقة إلى سيطرة صارمة، حيث غالباً ما يحمل قرار عدم طرح أسئلة معينة نفس تأثير التلاعب بالمعلومات وتشويه الحقائق”.
وتابعت: “على سبيل المثال، لا يوجد ما يشير إلى أنَّ إدارة جورج دبليو بوش أو باراك أوباما قد طلبت تقييماً استخباراتيا شاملاً عن السعودية، ومع ذلك، تسلك الإدارة الحالية نهجاً غير مسبوق تجاه مجتمع الاستخبارات، حيث لم تشهد الولايات المتحدة على مدار عقود مثل هذا التركيز من وكالة الاستخبارات ومجلس الأمن القومي من أجل إخفاء المعلومات، التي تعارض وجهة نظر الرئيس أو تزعجه.
واستطردت: “ماذا أصاب عملية جمع المعلومات الاستخباراتية المتعلّقة بالسعودية وكيف يمكن إصلاحها؟ فقبل بضعة أعوام، زار جون برينان، المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية، السعودية، وحضر مأدبة غداء استضافها الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، الذي كان ولياً للعهد آنذاك”.
وبينما كان الأمير سلمان حريصاً على استقبال ضيوفه والترحيب بهم، بدا عليه علامات الوهن على نحوٍ ملحوظ، وتكهّن ريدل بأنَّ الأمير المسن –العاهل السعودي الحالي- كان يعاني في ذلك الوقت من بعض أعراض ما قبل الخرف، وكان هناك شخص آخر غير معروف يلازم طوال الوقت الأمير سلمان، تبيَّن لاحقاً أنَّه نجله، محمد بن سلمان، وفق تعبير المجلة.
وقالت: “لم تكن أجهزة الاستخبارات تعرف معلومات كثيرة عن محمد بن سلمان تتجاوز اسمه المدرج في شجرة عائلة آل سعود، وكانت الاستخبارات الأمريكية في ذلك الوقت قد اختارت بالفعل “الشخص المفضل” لديها بين الأمراء السعوديين، وهو الأمير محمد بن نايف، وزير الداخلية السعودي آنذاك، فأصبح محمد بن نايف رجل المخابرات الأمريكية في المملكة العربية السعودية”.
رجل أمريكا
وتشير المجلة، إلى أن مديرو وكالة الاستخبارات الأمريكية أسرفوا في الثناء على محمد بن نايف، حيث قال عنه جورج تينيت، الذي شغل سابقاً منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية خلال إدارتي بيل كلينتون وجورج دبليو بوش، بأنَّه “محاوره الأهم”، ووصفه ليون بانيتا بأنَّه “الأذكى بين أبناء جيله”.
وأضافت: “راهن برينان، الذي عينه أوباما مديراً لوكالة الاستخبارات عام 2013، بقوة على محمد بن نايف وروّج له لدى الإدارة الامريكية باعتباره الحصان الرابح، لكن برينان كان أيضاً يدير الملف السعودي داخل الاستخبارات بطريقة تدخّلية قيّدت قدرة الوكالة على الإبلاغ عن مناورات داخل العائلة المالكة قد تؤثر سلباً على محمد بن نايف واحتمالات صعوده، فأقنع برينان الرئيس أوباما بالاستثمار في محمد بن نايف لتحقيق المصالح الأمريكية الممتدة إلى خارج حدود المملكة”.
واستدركت: “لكن كما يعلم جميع السعوديين، لم يكن هناك علاقة مودة بين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان وفرع العائلة المالكة، الذي ينتمي إليه الأمير سلمان، وبعد نجاته من محاولة اغتيال عام 2009 نفّذها إرهابي انتحاري من تنظيم القاعدة، بات محمد بن نايف يعتمد على مسكنات الآلام لدرجة وصلت إلى الإدمان.
استخدمت تلك المشكلة لتبرير انقلاب يونيو/حزيران 2017، الذي وضع فيه محمد بن سلمان ابن عمه قيد الإقامة الجبرية”.
وعلى هذا النحو، خسرت الولايات المتحدة الخيول، التي راهنت عليها في السعودية، ووجدت نفسها لا تتعامل مع الشريك، الذي كانت تزرعه، لكن مع نجم صاعد لا تعرف الكثير عنه، على حد تعبير المجلة.
وتقول المجلة، إن سيَّس برينان قدم معلومات وتقييمات متحيّزة تؤثر على عملية صنع القرار، وتخيل نفسه صانع سياسات ومبعوث الإدارة الأمريكية أكثر من كونه مسؤولاً مُكلّفاً بمهام جمع المعلومات وإتاحتها دون تحيّز ليسترشد بها صنّاع القرار.
وأضافت: “أدَّى سلوك برينان إلى حجب الحقائق حول محمد بن نايف، الذي كان مستشاروه يعرفون جيداً طموح بن سلمان، وفي نهاية المطاف، لم يكن بوسعه فعل شيء لإنقاذ حليفه”.
الحصان الخاسر
وحسب المجلة، فإنه بعد حوالي سبع سنوات من دعم الحصان الخطأ، لا يتّضح ما إذا كان مجتمع الاستخبارات قد تعلّم الدرس، ويشغل البيت الأبيض حالياً رئيس لا يحب سماع معلومات متضاربة من مستشاريه ويعتمد على حدسه فيما يتعلق بقرارات السياسة الخارجية.
وجد ترامب في بومبيو، خلال فترة عمله في وكالة الاستخبارات ووزارة الخارجية، المسؤول الذي يفتقر إلى الفضول أو العمق أو الرغبة في تقديم احتمالات واستنتاجات تتعارض مع وجهة نظر رئيسه. علاوة على ذلك، لم يُبد بومبيو أي استعداد لإغضاب الرئيس من أجل تزويده بمعلومات أفضل.
على عكس برينان، تقول المجلة، لم تتظاهر مديرة وكالة الاستخبارات المركزية الحالية، جينا هاسبل، بأي محاولة لبناء أو تعزيز علاقات شخصية مع محمد بن سلمان أو أي نجم صاعد آخر في المجتمع السعودي. هذا ليس بالضرورة نهجاً سيئاً ما دام المسؤول يسعى لتمكين مَن تتركّز مهمتهم على تطوير العلاقات مع الحلفاء.
وأضافت: “كذلك، يُحسب لجينا هاسبل أنَّها كانت أكثر صراحة في عرض تقييمات وكالة الاستخبارات الأمريكية المُتعلّقة بالمملكة إلى الرئيس؛ لكنها، لسوء الحظ مثل سلفها، تحجم عن البحث بجدية ونقل الأخبار السيئة التي قد تتعارض مع تصورات رئيسها أو تحرجه”.
وأكملت: “عندما دافع ترامب علناً عن ولي العهد السعودي على الرغم من تقييم أصدرته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية يخلص إلى أنَّ محمد بن سلمان هو من أصدر الأوامر بقتل جمال خاشقجي، فضَّلت جينا هاسبل الصمت وعدم كشف المزيد من الأسرار”.
واستكملت المجلة: “من الآن فصاعداً، يتعيّن على الرئيس ترامب والولايات المتحدة التحوّط في رهاناتهما في ضوء حقيقة أنَّ بيت آل سعود نفسه -مثل المملكة ككل- يفتقر إلى التجانس مع مراكز قوى متنوعة وخطوط نسب ومناورات تؤثر على عملية صنع القرار”.
ونوهت المجلة، إلى أن ابن سلمان يعمل حالياً تحت حماية والده المسن الضعيف؛ وقد يجد نفسه بعد وفاة والده، يواجه نفس مصير ابن عمه في حال لم يستطع كبح كل تهديد داخلي محتمل.
إجراءات عكسية
وأتّخذ بن سلمان مجموعة من الإجراءات عكست عدم يقينه المتزايد بشأن مدة بقاء والده حياً ليواصل توفير غطاء الحماية له، ففي مارس/آذار 2020، أمر ولي العهد باعتقال عدد من كبار الأمراء السعوديين على خلفية اتهامات بالخيانة، وكان من بينهم شقيق الملك، أحمد بن عبدالعزيز، ونجله الأمير نايف بن أحمد، واعتقل أيضاً منافسه ولي العهد السابق، محمد بن نايف، وشقيقه نواف بن نايف.
ولم تفعل الولايات المتحدة أي شيء حيال تلك الإجراءات؛ ولم تعترض حتى على اعتقال رجلها السابق محمد بن نايف، وبعد ذلك، احتجزت السلطات السعودية ابن وابنة الجنرال السعودي المتقاعد، سعد بن خالد بن سعدالله الجبري، للضغط عليه ليعود إلى المملكة.
وكان الجبري قد هرب من المملكة بعد الإطاحة بمحمد بن نايف، وعلى الرغم من علاقاته الوثيقة بالولايات المتحدة بصفته مسؤولاً سعودياً رفيع المستوى خدم لفترة طويلة مستشاراً لمحمد بن نايف، يقيم الجابري في كندا خوفاً من اتخاذ إدارة ترامب قراراً بترحيله إلى السعودية.
وتشير المجلة، إلى أنه ومن خلال اعتقال مَن يعتبرون أنفسهم مقرّبين من الولايات المتحدة أو آمنين على أساس تطمينات أمريكية، بعث بن سلمان برسالة قوية لا لبس فيها بشأن مخاطر التعاون مع الولايات المتحدة، وتكلفة المعارضة وعجز أمريكا عن حماية رجالها داخل المملكة، في الوقت نفسه، لا يريد ترامب على الإطلاق أي تقييمات استخباراتية تكشف مثل هذه التطورات، التي قد تهدد دعمه غير المشروط للمملكة وأميرها الشاب.
وتتابع: “يجب أن يكون ترامب قادراً على تقديم مبررات لعلاقته الإيجابية مع ولي العهد، استناداً إلى الحقائق القابلة للتدقيق، التي تتولّى أجهزة الاستخبارات الأمريكية مسؤولية توفيرها، مهما كان واقع ما يدور في السعودية”.