المشهد اليمني الأول/
كثيرٌ من الدول الغربية، على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، ترى مصلحة في تقسيم اليمن، كما هو الحال مع سوريا والعراق وليبيا، وإن كانت تدّعي حرصها على وحدة هذه الدول واستقرارها.
الكيان الإسرائيلي ليس بعيداً من هذه الرؤية. لديه في آنٍ واحدٍ مخاوف ومطامِع من التطوّرات الجارية في كل المنطقة، وحديثنا يقتصر على جنوب الجزيرة العربية.
إن انفصال جنوبي اليمن أو تقسيم اليمن إلى دويلات عدَّة (دولتين منها في الجنوب)، يوفّر نافِذة لاختراقٍ إسرائيلي ترى فيه تل أبيب فرصة لمُعالجة مخاوفها وتعزيز مطامعها.
في الخلفيّة، ترى “إسرائيل” في باب المندب نقطة محورية في الصراع مع محور المقاومة. حين انتصرت ثورة 21 أيلول/سبتمبر اليمنية في العام 2014م، خرج نتنياهو ليُحذّر من خطورة وصول “الحوثيين” إلى باب المندب، وكان ذلك تعبيراً مُبكراً عن الهواجِس من صعود دولة عربية جديدة إلى خط الصراع الأول مع الصهيونية.
في الأيام الأولى من العدوان على اليمن في العام 2015م، ومع اقتراب موعد التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، خرج نتنياهو بتصريحٍ لافت يقول فيه: إن “محور إيران ـ لوزان ـ اليمن هو محور خطير جداً للبشرية جمعاء، ويجب العمل على وقفه”. حينها، اعتبرت السلطات في صنعاء هذا التصريح إشارة إلى الدور الإسرائيلي في العدوان.
بقيت “إسرائيل” مواكِبة لتطوّرات الحرب، وخصوصاً في ما يتّصل بالسواحل الغربية، واستعرض الإعلام الإسرائيلي باهتمامٍ عمليات القوّة البحرية اليمنية في استهداف السفن العسكرية السعودية والإماراتية في البحر الأحمر.
في العام 2018م، أعلنت “إسرائيل” أنها تنفّذ عمليات قصف ضد دولتين عربيّتين. من المعلوم أن واحدة منها هي سوريا، لكن مَن هي الدولة الثانية؟
في ذلك الوقت، لم تكن هناك ساحة مُشتعلة سوى اليمن، حتى القصف على الحشد الشعبي في العراق أتى مُتأخّراً بعد قرابة عام من الإعلان الإسرائيلي. هذا الإعلان لم يُقدِّم جديداً بالنسبة إلى حكومة صنعاء، التي استبقت ذلك بالتأكيد على وجود أدلّة فنية تُثبِت تورّط تل أبيب بالمُشارَكة في تنفيذ غارات على اليمن.
عقب استهداف مُنشأتي بقيق وخريص النفطيتين التابعتين لشركة “أرامكو” السعودية، وبالتوازي مع الإعلان اليمني عن امتلاك صواريخ نوع “كروز” بعيدة المدى، برزت تصريحات جديدة لنتنياهو، تحدَّث فيها عن مخاطر وجود صواريخ في اليمن قادِرة على ضرب “إسرائيل”.
علاقة الكيان الإسرائيلي بالبحر الأحمر ومضيق باب المندب على وجه الخصوص لم تكن مرتبطة بالتطورات في اليمن. هي علاقة تمتد إلى عقود منذ نشأة الكيان، خاض فيها صراعاً طويلاً مع الدول العربية، ومن ضمنها اليمن في العام 1995م، حين ساعد السلطات الإريترية على احتلال جزيرة حنيش الاستراتيجية. والآن، تمتلك البحرية الإسرائيلية قاعدة عسكرية في أريتريا.
الدول المُطلّة على البحر الأحمر لم تعد مُنْخَرِطة في الصِراع مع الكيان الإسرائيلي بعد ركوب السودان مؤخراً موجة التطبيع. في المقابل، إن موقع اليمن الاستراتيجي مع تعاظُم قوّة الجيش اليمني واللجان الشعبية يُثير مخاوف مُستقبلية لتل أبيب. لذلك، فإن بناء علاقات مع القوى الانفصالية جنوباً قد يحوّل التهديد إلى فرصةٍ من وجهة النظر الإسرائيلية. وبدلاً من أن يصبح اليمن جزءاً أساسياً في معركة تطويق الكيان، فإن التمركز في جنوبه أو جنوبه الغربي سيُشكّل تهديداً لصنعاء، وبالتالي محور المقاومة.
من المؤكَّد أن المكوّنات التي تطالب بالانفصال جنوبي اليمن لن تكون جميعها مؤيّدة للعلاقة مع “إسرائيل”، غير أن المجلس الانتقالي، ومن خلال ارتباطه الجوهري بالإمارات، قد يندفع إلى هذه العلاقة، وليس من الضرورة إشهارها في المستقبل القريب، نظراً إلى الرفض الشعبي المُتوقّع. يكفي أن تعزّز تل أبيب التنسيق مع أبو ظبي بشأن دور مستقبلي في عدن ومناطق وجزر يمنية، كما فعلت ونسّقت للتقارُب مع المجلس السيادي في السودان.
لكن لماذا لا تذهب “إسرائيل” باتجاه بناء العلاقة مع حكومة هادي، ما دامت الأخيرة لن تمانع، وأقرب دليل على ذلك هو جلوس وزير خارجيّتها السابق خالد اليماني إلى جانب نتنياهو في مؤتمر وارسو التطبيعي في العام 2019م؟
تدور الإجابة حول الخصوصيّة التي يتميّز بها الانتقالي، باعتباره حاملاً لمشروع الانفصال، بما يجعله غير مُستعدّ لمُشاركة “أنصار الله” وشركائهم ضمن كيان واحد، واستعداده للذهاب إلى أبعد حد في تقديم التنازلات، حتى يضمن إقامة دولته على الجنوب أو جزء منه.هذا الاستغلال شبيه بما يحصل مع كردستان العراق، مع فارِق العلاقة الوثيقة مع الكرد على مدى عقود، فالموقع الجغرافي لجنوبي اليمن وكردستان العراق يخدم هدف “إسرائيل” في مُحاصَرة محور المقاومة وتقطيع أوصاله من إيران والعراق وسوريا إلى اليمن. وهنا، يتميَّز اليمن الجنوبي بموقعه المُطلّ على باب المندب، وبأنه ليس مُحاصراً في اليابس