المشهد اليمني الأول/
بعد 5 سنوات منهكة من العدوان على اليمن، يبدوا أن السعودية تقبلت فكرة الانسحاب، بعد التطورات الأخيرة التي تشمل تفتيت تحالفها، واكتساب الجيش واللجان الشعبية المزيد من الأرض، ومواجهة اقتصاد السعودية المتعثر موقفاً صعباً إثر انخفاض أسعار النفط بشكل قياسي.
ومن المشجع إعلان وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه الرياض في 25 مارس في أعقاب ضغوط الأمم المتحدة بشأن فيروس “كورونا”.
ومع ذلك، فإن ما يجري تداوله بشأن استعداد المملكة الآن للخروج من ساحة المعركة يمثل مشكلة مقلقة للمحللين، بقدر القلق الذي بدا إبان دخولها المتسارع إلى الحرب عام 2015.
ثمن العدوان الباهظ
كلف العدوان الرياض ما يقدر بنحو 100 مليار دولار حتى الآن، ناهيك عن أن دافعي الضرائب الأمريكيين كانوا يدفعون أيضا ثمن تزويد الطائرات السعودية والعدوان بالوقود أثناء قيامهم بالطلعات الجوية.
هناك الكثير من الأسباب التي تدفع ولي العهد السعودي (الذي يُنسب إليه القرار الكارثي في 2015 بشن العدوان اليمن) لإنهاء هذه الحرب.
أحد الأسباب هو التكلفة الهائلة، ليس فقط للمملكة، ولكن أيضاً للمجتمع الدولي الذي يتعين عليه أن يوفر ما يقرب من 30 مليار دولار أمريكي من المساعدات وحدها في السنوات المقبلة، وفقا لوكالة “أسوشيتد برس”.
هناك سبب آخر منطقي بالنسبة للخبراء الغربيين، وهو أن ذلك قد يكون القرار الذكي الوحيد الذي من المحتمل أن يتخذه “ابن سلمان”، الذي يستعد لتولي العرش، بالنظر إلى آثار الفوضى التي خلفها وراءه، حيث أثرت سياسات عديدة غير مدروسة على الصورة العامة للرياض في جميع أنحاء العالم، وتستمر حتى يومنا هذا في التأثير عليها قبل قمة مجموعة العشرين المنتظرة التي سيستضيفها السعوديون في نوفمبر المقبل.
لا يوجد الكثير من السياسات الناجحة التي يمكن أن تعرضها السعودية حاليا على قادة العالم، بعد سياسات غير مدروسة تراوحت من حصار قطر، وحتى اغتيال المعارض السعودي “جمال خاشقجي” والتستر الفاشل على ذلك، بالإضافة إلى القرار الأخير الذي اتخذه “ابن سلمان” ببدء حرب أسعار النفط مع روسيا.
قلة من الناس يمكن أن يصدقوا هذه الدرجة من الحماقة التي تشبه إطلاق النار على القدمين بنفس المسدس، حيث ورط “ابن سلمان” المملكة في فوضى بتدهور سعر برميل النفط ليصل إلى 25 دولارا قبل أيام.
إنقاذ الصورة العامة
وهكذا فإن الانسحاب من اليمن، يمكن أن يظهر الرياض كصاحبة بعض النوايا الحسنة في جميع أنحاء العالم، في فترة امتلأت فيها وسائل الإعلام الغربية بتغطية الاعتقالات الأخيرة لكبار منتقدي ولي العهد.
تقول الأستاذة الزائرة في مركز الشرق الأوسط، بكلية لندن للاقتصاد، “مضاوي الرشيد”: “الاعتقالات تذكير صارخ بأن محمد بن سلمان قد فشل تماما في إشراك العائلة المالكة، واحتواء تطلعات كبار أفراد الأسرة المالكة المهمشين، واستخلاص الولاء منهم”.
لا يُظهر “ابن سلمان” صفات القائد العظيم في الوقت الحالي، وإنما يعزز فكرة أنه ليس قائدا واثقا من نفسه، ويشكك الكثيرون في المملكة في أنه سيكون قادرا على الحفاظ على قيادة متماسكة بمجرد وفاة الملك “سلمان”.
هذا باختصار يفسر سبب حدوث الاعتقالات الأخيرة، لقد كانت محاولة أخيرة لحشد الدعم لولي العهد، لكنها مهدت الطريق لترسيخ معارضة صامتة، في ما يعد عواقب غير مقصودة لحملة الاعتقالات.
كل هذه الأفعال قصيرة النظر هي جزء من صورة زعيم متذبذب تشد إجراءاته التعسفية ببساطة بحبل حول رقبته وتبذر البذور لانقلاب عسكري في السنوات المقبلة.
لذلك، فإن اتخاذ قرار ذكي بالخروج من العدوان على اليمن، قد يعطيه بعض الوقت، ويثبت للمعارضين الذين يختبئون في الظل، أن الملك الشاب المنتظر لديه حكمة تتجاوز سنه.
محاولات حفظ ماء الوجه
المشكلة بالنسبة لـ”ابن سلمان” هي أنه فيما قد يمنحه العالم فرصة ثانية، فإن حاشيته المباشرة ستحكم بأنه ضعيف إذا خرج من عدوان اليمن.
لهذا، فإن أي انسحاب من ساحة المعركة، يجب أن يأتي مصحوبا بمقومات لحفظ ماء الوجه، وهذا هو السبب في أنه يحتاج بشدة إلى لاعبين دوليين يمكنهم أن يتوسطوا ويخرجوه من المستنقع.
الوقت ليس إلى جانبه، ففي كل يوم يمر، يحرر الجيش واللجان الشعبية على المزيد من الأرض شمال البلاد، في صعدة، وهي المنطقة نفسها التي كانت لها روابط قوية سابقا مع السعودية.
يخطط الجيش واللجان أيضاً لتحرير معاقل أخرى من حكومة الفار”هادي” مثل محافظة مأرب وعاصمتها مدينة مأرب.
إذا نجحت مثل هذه الخطوة تجاه مأرب، فستكون ضربة قاصمة لـ”ابن سلمان” وموقفه في اليمن، مما يتركه معرضا على نطاق واسع للسخرية والازدراء حتى من قاعدة دعمه، ناهيك عن منتقديه الأربعة البارزين الذين تم اعتقالهم مؤخرا.
تورط “ابن سلمان” في عدوانه على اليمن، هو من صنيعة أفعاله، ولايزال السعوديون يهزؤون بأفكاره السابقة بتعزيز سلطة الفار “هادي” كرئيس في عدن (والذي لم يكن هناك الكثير ممن يعتقدون بقدرته في السيطرة على اليمن).
لكن الحقيقة هي أنه يجب على “ابن سلمان” ومفاوضيه التحرك بسرعة في تأمين صفقة أكثر واقعية مع حكومة الإنقاذ الوطني، يجب أن تحدث صفقة تضمن أمن الحدود الجنوبية للمملكة وتحسن العلاقات مع منطقة صعدة على الأقل كوسيلة للمضي قدما.
لا يقتصر الأمر على تطلع حكومة الإنقاذ إلى مأرب، إذ يعتقد العديد منهم أنه قد يكون من الأفضل لهم التفاوض على تسوية سلمية مع المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات فقط.
انتصار مستحيل في المفاوضات
كان الانقسام بين الإمارات والسعودية، هو الذي سمح بشكل أساسي للمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات، بالسيطرة على عدن، في أغسطس 2019.
منذ ذلك الحين، برز جنوب اليمن كساحة حرب داخل الحرب، واستغل الجيش واللجان بطرق عديدة مواجهة الخصمين الجيوسياسيين الإقليميين في عدن، مما أضعف شرعية الفار “هادي” وحكومته بشكل أكبر.
من الناحية العملية، لا يوجد الكثير من الدوافع لدى الجيش واللجان للتفاوض مع السعوديين أو مع المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات (هذا الأخير أكثر انحيازا إلى روسيا التي تسعى إلى الاستفادة من اليمن المنقسمة).
ومن المفارقات الساخرة أن “حكومة الإنقاذ” هم التي ستختار التحدث إلى أي من المجموعتين، السعوديين والمجلس الانتقالي الجنوبي.
وفي كلتا الحالتين، فإن الجيش واللجان هم الأقدر على تسوية سلمية لصالحهم.
أحد الأشياء المريرة التي يجب أن يتعامل معها “ابن سلمان”، أنه في وقت مبكر جدا من العدوان على اليمن – عندما سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء عام 2014 – تم تصويرهم على أنهم مثل “حزب الله” في لبنان.
يشير محللون إلى أن المجموعة كانت مدعومة أيديولوجيا فقط من قبل إيران في ذلك الوقت، وليس بالمعدات أو المساعدة العسكرية.
جاء ذلك في وقت لاحق كنتيجة مباشرة لحملة قصف العدوان السعودي في صنعاء، التي انحدرت لدرجة أنها قصفت حفلات الزفاف وحافلة مدرسية مليئة بالأطفال.
ربما تكون خطوة التحدث لحكومة صنعاء أذكى خطوة يتخذها “ابن سلمان” حتى الآن، ولكن التصرف بإقدام يتجاوز الإمارات، وتأمين وساطة في صفقة تجعله يبدو كأنه الفائز، سيكون أصعب من دخول الجمل في ثقب إبرة.
عندما تنطلق قمة مجموعة العشرين في وقت لاحق من هذا العام، قد لا يكون اليمن موضوعا يرغب أي مسؤول في الرياض في مناقشته، حيث لن يكون تحديد الفائز والخاسر أمرا مفضلا للنقاش، إذا واصل الحوثيون مكاسبهم الإقليمية.
ربما تأخرت دروس اليمن كثيراً بالنسبة لـ”ابن سلمان”، خصوصاً مع تقدم الإمارات وروسيا إلى الأمام وجنيهما غنائم العدوان، وترك “ابن سلمان” على خط التماس يتساءل عمن هم أصدقاؤه الحقيقيون في المنطقة.