المشهد اليمني الأول/
بهذه الكلمات علق المتحدث باسم الحكومة اليونانية “ستيليوس بيتساس” على إعلان أثينا عزمها نشر صواريخ باتريوت في السعودية بطلب من الأخيرة، ما أثار تساؤل المراقبين حول سبب نشر منظومة أمريكية في المملكة بواسطة جنود يونانيين رغم وجود قوات أمريكية بقاعدة الأمير سلطان الجوية.
الحيثيات الرسمية، التي قدمها “بيتساس” للصحفيين في العاصمة اليونانية ركزت على أن نشر باتريوت في السعودية يأتي في إطار “مبادرة” تهدف إلى حماية منشآت بنى تحتية على صلة بقطاع الطاقة السعودي، وصفها بأنها “غاية في الأهمية”.
وبذلك، تتعزز صورة أثينا كعامل مساعد على الاستقرار الإقليمي وتوطد علاقتها مع الرياض في آن واحد، حسب تعليق المتحدث اليوناني، الذي نوه إلى أن المحادثات بشأن هذه الخطوة بدأت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
لكن هذه الإفادة الرسمية لم تقدم إجابة حول العديد من الشكوك المتعلقة بالتحرك اليوناني الذي عارضته العديد من أحزاب المعارضة في البلاد معتبرة إياه “مغامرة خطرة”، ما يعني أن الأمر يتجاوز مجرد المشاركة الرمزية لليونان في تأمين حقول النفط السعودية.
عصفوران بحجر
ومما عزز من هذه الشكوك أن اليونان ليست من الدول التي تميل إلى تعزيز انتشارها العسكري خارج حدودها، والدليل على ذلك أن المشاركة المنتظرة لـ130 جنديا في نشر بطاريات باتريوت في السعودية تمثل أول انتشار عسكري لليونان خارج منطقة البحر الأبيض المتوسط منذ عقود.
وبتتبع الخيط وربطه بجولة رئيس الوزراء اليوناني “كيرياكوس ميتسوتاكيس” الأخيرة في الشرق الأوسط مطلع الشهر الجاري لإجراء محادثات بشأن الاستثمار مع الحكومتين السعودية والإماراتية، يبدو من الواضح أن تحركات اليونان تأتي في سياق صراعه الأوسع مع تركيا حول مصادر الطاقة في البحر المتوسط.
وقد تعززت هذه التحركات اليونانية على وجه الخصوص في أعقاب قيام أنقرة وحكومة الوفاق الليبية، المعترف بها دولياً، بتوقيع لترسيم الحدود البحرية وتقسيم مناطق النفوذ والمصالح في البحر المتوسط بينهما في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ومما يزيد من الشكوك حول دوافع الصفقة السعودية – اليونانية أن الرياض لا تزال تتكتم بشدة حول تفاصيلها المالية والفنية، وهو نهج تتبعه السعودية في التعامل مع الصفقات ذات الطابع السياسي، بخلاف الصفقات التجارية البحتة التي تتسم غالبا بالعلنية.
وتشهد العلاقات بين أنقرة والرياض توترا كبيرا منذ اغتيال الكاتب الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” داخل قنصلية المملكة في إسطنبول على يد عملاء حكوميين في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، وردا على قيام تركيا بالتصعيد ضد المملكة في أعقاب مقتل “خاشقجي”، شرعت الرياض في تعزيز علاقاتها مع جميع خصوم تركيا الإقليميين.
ويعد اليونان على رأس هؤلاء الخصوم، إذ تتصارع أثينا مع أنقرة تاريخيا بشأن مصير جزيرة قبرص المنقسمة منذ عام 1974 إلى جزأين، أحدهما ذو أغلبية سكانية يونانية في الجنوب والآخر ذو أغلبية تركية في الشمال، وكذلك حول مناطق النفوذ والصلاحية الخاصة بمصادر الطاقة في البحر المتوسط.
وفي هذا الإطار، يشير الخبير العسكري “يوسف الشرقاوي” إلى أن التوجه السعودي الجديد إلى اليونان للحصول على خدمات عسكرية يمثل ضربا لعصفورين بحجر واحد، عبر التحالف مع خصم تركيا والتقارب مع حليف قوي لـ(إسرائيل) في آن واحد، وفقا لما نقله موقع “الخليج أونلاين”.
ويشير “الشرقاوي”، في هذا الصدد، إلى أن “التحالف اليوناني الإسرائيلي تعزز بالاتفاق بين البلدين حول آبار الغاز شرقي البحر الأبيض المتوسط، ولا يستبعد أن تكون دولة الاحتلال هي من طلبت من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الاستعانة باليونان وشراء أسلحة دفاعية جوية منها بهدف إنعاش اقتصادها المتدهور منذ سنوات طويلة”.
مقاول عسكري
وبذلك يمكن لليونان لعب دور “المقاول العسكري” في جهود الرياض لتدارك آثار الهجمات التي استهدفت منشآت شركتها النفطية العملاقة “أرامكو”، في منتصف سبتمبر/أيلول 2019، وهي الهجمات التي تبنتها حركة الحوثيين اليمنية المتحالفة مع إيران، رغم أن واشنطن رجحت أن تكون الهجمات تم تنفيذها بواسطة إيران نفسها.
وأظهر استهداف منشآت “أرامكو” بـ10 طائرات مسيّرة مدى عجز الدفاعات الجوية السعودية عن حماية منشآت البلاد الحيوية، رغم صفقات الأسلحة الضخمة التي كبدت حزينة البلاد مليارات الدولارات.
وبحسب ما نقلته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عن مصدر سعودي مسؤول (لم تسمه)، فإن “هذه الأحداث أظهرت أن البلاد مكشوفة أمام أي استهداف صاروخي”.
وإذا كانت اليونان لا تملك المال أو التكنولوجيا اللازمين لتزويد السعودية بأنظمة دفاعية، فإنها تملك لعب دور الوسيط في الصفقات التي لا تريد المملكة إبرامها بشكل مباشر مقابل حوافز اقتصادية، وربما يشمل ذلك صفقات مع شركات إسرائيلية.
ويتوافق ذلك مع ما كشفته مجلة “إسرائيل ديفنس” العبرية، في 5 فبراير/شباط، بشأن إبداء الرياض رغبتها في شراء عتاد من شركة “رافائيل” العبرية، التي تشتهر بإنتاج صواريخ “سبايك” المضادة للدروع.
ورحجت “إسرائيل ديفينس” أن إدخال الأسلحة الإسرائيلية سيتم من خلال “وسيط أوروبي”، مشيراً إلى أن الصناعات العسكرية الإسرائيلية مرشحة للازدهار بالأسواق الخليجية في ظل دفء العلاقة بين الرياض وتل أبيب.
ولذا يتوقع الخبير الاستراتيجي المصري “أحمد رفعت” أن تشهد العلاقات بين السعودية واليونان تطورًا كبيرًا خلال الفترة المقبلة، وأن ينعكس التنسيق الجاري بين البلدين ضد تركيا على القضايا المرتبطة بالأمن في البحر المتوسط، وفقا لما نقلته شبكة “روسيا اليوم”.
توجه جديد
في سياق آخر، يرجح محللون أن توثيق اليونان علاقتها مع تركيا يأتي في إطار رغبة أثينا في زيادة نشاطها العسكري والدبلوماسي خارج حدودها وتوثيق تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة وفرنسا.
وفي الشهر الماضي، أعادت أثينا تفعيل اتفاقية عسكرية دفاعية مع واشنطن، وعززت التعاون الاستراتيجي مع باريس من خلال إرسال فرقاطة يونانية إلى شرق المتوسط في مهمة مشتركة مع حاملة الطائرات الفرنسية “شارل ديجول”، قبل أن تعلن اليونان نيتها نشر صواريخ من نوع “باتريوت” في السعودية ضمن إطار برنامج مشترك مع الولايات المتحدة وفرنسا وكذلك بريطانيا.
ورحب رئيس الوزراء اليوناني “كرياكوس ميتسوتاكيس”، في كلمة ألقاها مؤخرا في البرلمان أثناء التصويت على الاتفاقية الدفاعية مع الولايات المتحدة، بتعزيز “التحالف الاستراتيجي” مع واشنطن، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن التعاون العسكري بين أثينا وباريس بلغ أفضل مستوى له في تاريخ العلاقات بين الدولتين.
وتعتزم الولايات المتحدة، حسب البيانات اليونانية الرسمية، استثمار 12 مليون يورو في تطوير قاعدة لاريسا الجوية وسط البلاد وبـ6 ملايين يورو في القاعدة التي تستخدمها القوات الأمريكية في منطقة سودا بجزيرة كريت.
كما ترغب أثينا في تحديث أسطولها من المقاتلات الأمريكية “إف-16” وأعربت عن اهتمامها بشراء طائرات مسيرة ومقاتلات “إف-35” من واشنطن.
أما بخصوص التعاون مع فرنسا، فتخوض أثينا مفاوضات مع باريس لشراء فرقاطتين متوسطتين فرنسيتين، وتأمل في إنتاج أجزاء منهما في مصانعها لبناء السفن، ومن المقرر توقيع “اتفاق استراتيجي” بين الدولتين أواخر فبراير/شباط الجاري.
في المقابل، تشجع فرنسا اليونان على أن “تكون أكثر استقلالا” وأن تكثف من دورها القيادي في المبادرات الدفاعية الأوروبية، مثل البعثة العسكرية في منطقة الساحل.
وخلصت الوكالة إلى أن الهدف الرئيسي غير المعلن لتلك التحركات اليونانية يعود إلى أمل أثينا في كسب دعم واشنطن وباريس وجذب قدراتهما الاستثماراتية في خلافها مع تركيا في منطقة البحر المتوسط.