المشهد اليمني الأول/
لقد تحدث الإمام بشأن تاريخ العراق قائلاً: (إن الميرزا الشيرازي الثاني، هذا الشخص الجليل العظيم ذو المنزلة الرفيعة المرموقة علماً وعملاً، هو الذي أفتى بالجهاد وأنقذ العراق .. لقد لبى الشعب العراقي بقبائله نداءه ووقفوا إلى جانبه مضحين بالغالي والنفيس حتى نالوا استقلالهم).
لم ينفك الإمام الخميني “رحمه الله”_ سواء في مجابهته لنظام الشاه أو المتظاهرين بالثقافة الذين سعوا حثيثاً إبان الثورة لتحجيم دور المرجعية وعلماء الدين _ عن الإشادة بأمجاد مراجع الشيعة في إرساء دعائم استقلال إيران، ناهيك عن صمودهم ومجابهتهم لكافة أشكال الاستعمار والتسلط. لقد كان يصر وفي أكثر من مناسبة على أن استقلال إيران والعراق كان رهيناً لما بذلته المرجعية الشيعية من جهود مضنية في هذا الخصوص.
كانت للإمام جذور راسخة في أعماق الحوزة العلمية. ولم يكن طارئاً عليها لتفصله عن ماضيه وتلقي به أمواج التجدد في غياهبها لتنسيه المتداول من سننها وأعرافها. لقد كان يتابع عن كثب ومنذ قرن من الزمان ببصيرته الثاقبة الجهود المخلصة للمرجعية الشيعية بوجه (الحداثة والعصرنة ذات التبعية). لقد عاش محنة المراجع إزاء القضاء على المعتقدات الدينية، ولمس صمود وشموخ رموز المرجعية وتصديهم لمنطق القوة الغاشمة المتغطرسة رغم نحافة أجسامهم.
كان الإمام يشمئز من التنكر لدور المرجعية، ويعزي أسباب ذلك الجهل وإيحاءات المستعمرين. كان يستاء من الإفراط القشري أو المغرض، وكثيراً ما كان يذكر مخاطبيه الذين أغمضوا أعينهم عن الماضي بتلك المفاخر والمشاهير المشرقة مكيلاً لهم المدح والثناء.
لم ينفك الإمام_سواء في مجابهته لنظام الشاه أو المتظاهرين بالثقافة الذين سعوا حثيثاً إبان الثورة لتحجيم دور المرجعية وعلماء الدين_عن الإشادة بأمجاد مراجع الشيعة في إرساء دعائم استقلال إيران، ناهيك عن صمودهم ومجابهتهم لكافة أشكال الاستعمار والتسلط. لقد كان يصر وفي أكثر من مناسبة على أن استقلال إيران والعراق كان رهيناً لما بذلته المرجعية الشيعية من جهود مضنية في هذا الخصوص.
لقد كان للحضور الفاعل لمراجع التقليد في نهضة التنباكو_سيما تلك الفتوى المعروفة التي أطلقها الميرزا الشيرازي_أن لا تبتلي إيران بالمصير الذي طال الهند وأن يجر الاستعمار البريطاني أذيال الخيبة والخسران. ولذلك فان على كافة الإيرانيين ممن لم يتغاضوا عن سمو النفس أن يدينوا بالفضل لتلك الفتوى والنهضة العظيمة، النهضة التي حطمت غرور واقتدار الدولة البريطانية وأشعرتها بمدى أصالة الشعب الإيراني، طاردة من ذهنه حلم استعباده والسيطرة عليه.
قال الإمام مذكراً بنهضة التنباكو: ((رغم أنه [الميرزا الشيرازي] كان عقلاً مفكراً وكان يقيم في سامراء، داعياً الناس للتحلي بالصبر ورباطة الجأش والهدوء، إلا أنه حين شعر بأن الخطر محدق بكيان الإسلام وان الشاه أصبح آنذاك أداة بيد المؤسسات والدوائر الأجنبية التي كانت تفكر في القضاء على الإسلام،
فان هذا الشيخ الكبير الذي كان يسكن تلك المنطقة الصغيرة ولم يجتمع حوله من طلبة العلوم الدينية أكثر من ثلاثمئة، لم يرد بداً من إرشاد ونصح ذلك الحاكم المستبد، وما زالت كتاباته محفوظة، إلا أنه لم يعر نصحه آذاناً صاغية ونعت ذلك العالم الفذ بأسوأ التعبيرات الأمر الذي دفعه إلى إطلاق تلك الفتوى الشهيرة التي أدت إلى استقلال إيران)) .
نهضة الدستور (المشروطة) ودور علماء الدين فيها هي الحادثة التاريخية الأٌخرى التي تطرق لها الإمام في أحاديثه ولم يألو جهداً في ترسيخها في أذهان الجيل المعاصر. كانت نهضة الدستور (المشروطة) رغم ما اكتنفها وما قيل بشأنها تهدف للحد من الاستبداد وإعادة تنظيم صفوف الأمة لمجابهة الاستعمار والامبريالية.
لقد تبلورت هذه النهضة التي حققت إنجازات سياسية واجتماعية عظيمة لشعبنا وأٌمتنا بفضل فتاوى وإرشادات مراجع الدين في النجف وإيران، وعلى الرغم من الجهود والمحاولات اليائسة التي بذلها بعض المؤرخين المنحرفين للتقليل من شان المرجعية ودورها في هذا المجال وإسنادها لطائفة وفئة أخرى في عرضهم، إلا أن أدنى تأمل يُشعر بأنها كانت وليدة ((الفتوى)).
قال الإمام بشان الجهد الذي بذلته المرجعية في هذه النهضة: (( لقد انطلقت هذه النهضة [المشروطة] على يد العلماء من النجف وكذلك قادها العلماء في إيران… الجميع يعرف محمد علي الميرزا كيف كان سبعاً ضارياً وكذا الآخرين، وقد نهض العلماء بوجه الانفراج في الاستبداد لكن لا كما كانوا يصبون إليه)) .
إن المجابهة المباشرة وغير المباشرة لعلماء الدين والمرجعية بوجه نظام رضا خان المتغطرس لتعد نقطة مشرفة في تاريخ المرجعية. وان أول نظام سياسي ساد إيران وأخذ بزمام الأمور بإشارة من الغرب هو حكومة الانقلاب التي كمت الأفواه هنا وهناك، إلا أن المرجعية وعلماء الدين انفردوا بمقارعة استبداد رضا شاه وجبروته.
وسرعان ما انضوت الجبهة الثقافية_التي انبثقت من دار الفنون والدستور_تحت لواء تلك الحكومة لتمارس مهامها في ((العدلية)) و((البلدية)) و((المعارف)) ولم تفق من تلك الغفلة [المشوبة بالنعمة طبعاً] حتى لا ينسى لها سماع زئير طائرات الحلفاء أجواء طهران.
لقد تكلم الإمام من حين لآخر بشأن هذه الفترة متطرقاً لآية الله مدرس، كونه يمثل إحدى الحلقات المهمة لتلك الأسطورة الخالدة، مذكراً بعظم موقفه حيال الاستعمار والاستبداد وما تحلى به من شجاعة فائقة وإقدام إزاء الإرهاب والاضطهاد .
أضف إلى ذلك فانه كان يلمح لنهضات علماء قم وأصفهان بزعامة الحاج نور الله الاصفهاني، وللجهود المضنية لمراجع خراسان بقيادة الحاج حسين القمي والسيد يونس الأردبيلي وغيرهما، وكذا لصمود ومقاومة علماء آذربيجان وسائر المناطق الإيرانية إبان العصر الاستبدادي لرضا خان، ويقول:
((حين قام رضاخان بانقلابه وأمسك بزمام الأمور .. لم ينبري له ويقف بوجهه إلا علماء الدين، حيث ما زلنا نستذكر قيادتهم للنهضة تلو الأُخرى، النهضة التي انطلقت في مدينة اصفهان ثم اجتمع زعماؤها من علماء كافة البلاد في مدينة قم المقدسة، ثم امتدت لتشمل خراسان وفي طليعتها العلماء الأعلام الذين أودعوا جميعهم السجن .. ثم عمدوا لفطاحل علماء آذربيجان المرحوم الميرزا صادق والمرحوم انكجي والآخرون لينفوهم عمن مناطقهم)) .
الحادثة الأخرى التي كان قد تطرق لها الإمام مراراً هي حركة علماء العراق ومناهضتهم للاستعمار الانجليزي.
لم يكن من المعقول أن يتصدى أولئك العظام كالميرزا محمد تقي الشيرازي، ويقفوا بوجه الهجمة الشرسة للجيش البريطاني. وذلك ان بريطانيا إبان القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت ترى نفسها إمبراطورية عظمى لا تقهر، محطمة خطط الساسة وتطلعاتهم، سالبة نعاسهم ومؤرقة ليلهم.
والحق أن هذه المفردات لم يقصد منها المبالغة والاستغراق، بل هي غيض من فيض ذلك الواقع المرير آنذاك، وفي ظل تلك الأجواء هب العلماء دون أن يشعروا قلوبهم أدنى خيفة، واقتحموا ميدان الصراع داعين الأمة للجهاد والثورة. ولم يكن هناك من ينهض بهذا الأمر سوى مراجع العراق.
لقد تحدث الإمام بشأن هذه الحقبة من تاريخ العراق قائلاً: ((إن الميرزا الشيرازي الثاني، هذا الشخص الجليل العظيم ذو المنزلة الرفيعة المرموقة علماً وعملاً، هو الذي أفتى بالجهاد وأنقذ العراق .. لقد لبى الشعب العراقي بقبائله نداءه ووقفوا إلى جانبه مضحين بالغالي والنفيس حتى نالوا استقلالهم)) .
وقال ((إن الملالي [علماء الدين] هم الذين أنقذوا العراق وحرروه من سيطرة الاستعمار الانجليزي .. كان ذلك الملا هو الذي اقتحم ميدان الصراع في العراق فتعرض للأسر .. كان المرحوم السيد محمد تقي الخوانساري أحد أولئك الذين التحقوا بالجبهة ونهض لمقارعة الأعداء حتى وقع في الأسر)) .
هكذا روى الإمام تلك الوقائع على أنها تمثل حلقة مهمة من التاريخ المعاصر، حيث كان للمراجع والمرجعية بالغ الأثر في رسم خارطة التاريخ. وبقيت هذه الحقيقة ناصعة رغم الجهود والمحاولات الفاشلة التي بذلها النظام البهلوي والأقلام المأجورة لأولئك المتلبسين بالثقافة، بغية تحجيم ذلك الدور والتقليل من شأنه، بل محوه من صفحة التاريخ.
ولا بد من الإذعان هنا بأنه وللأسف قد تكللت بعض تلك الجهود والمحاولات بالنجاح، فهناك فئة تسعى جاهدة للحط من قيمة هذا التراث الدموي للمرجعية وعلماء الدين، في محاولة لتهميش الدور التاريخي للمرجعية بهدف الحيلولة دون إقبال الجيل المعاصر على الإلمام بهذا الفصل التاريخي العريق.
إحدى المجلات كانت وما تزال تسعى أن تظهر محايدة بعيدة عن روح الإفراط والتعصب، وقد حاولت أن تثبت من خلال تجربة عشر سنين، أنها من المتحمسين الجديين لإصلاح المؤسسة الحوزوية العلمائية، لذلك فكانت ولا تزال بين الفينة والأخرى تتعرض لماضي الحوزات وحاضرها بالنقد والتحليل، مما حدى بها أن تكون في معرض اللوم والمؤاخذة بسبب انتقاداتها الصريحة مرات وكرات خلال مدة انتشارها،
ومما يجدر ذكره هنا أنه في إطار تصنيف وتقييم الأفراد أو الجماعات وتوضيح وجهات النظر لا بد من طرح هذه المسألة المهمة وهي أنه هنالك بون شاسع صريح بين حدود نقد المؤسسة المرجعية الحوزوية وبين إجهاضها والقضاء عليها. والحق أن يقال_وللأسف_أنه قد ضل وأخطأ من اعتقد بأن شرط الانفتاح الديني هو الاستغناء عن نظام الحوزة العلمية .
كما ضل أتباع الانفتاح اللاديني في مناهضتهم للحوزة، بل لم يكن أمامهم سوى الغرق في وحل الغرب أو فناء أعمارهم عبثاً في كتلة الشرق. ولا ينبغي أن يوجه بجيل الشباب الذين يرون بعض الفجوات في النظام وعلماء الدين_بحجة التجديد_نحو نهج قد لا يؤدي إلا إلى تصدع وحدة الأمة وانهيار وفاقها الوطني.
هذا ولا ينبغي أن يساء تفسير هذه الملاحظة التي أوردناها بحسن نية. فتكون عقبة في طريق إبداء النظر بين الأطراف المختلفة، فإننا ومن يشاطرنا الرأي في الحوزات الدينية لا نتفق وأي نوع من أنواع تصفية الحسابات (سواء السياسية أو في الإطار الفكري والثقافي، الذي يفترض أن يكون اعقد وأدق).
وبناء على ما تقدم فلا يجدر بمن خوطب بالملاحظة التي أشير إليها أن يتلقاها نوع من البرود وعدم الاكتراث، كالدعوات السابقة الأخرى والمرتجى من هذا الجيل الواعي المتحلي بالثقافة الدينية أن يسلك نهجاً صائباً كالماضي في تقييمه الواقعي للمؤسسات الاجتماعية بما فيها الحوزة العلمية وعلماء الدين.
وان يقر بالجميل لآثارها الخيرة وبركاتها ويثمن دورها في إحياء الدين وتجسيد عزة المسلمين، ناقلاً هذه الحقائق لأولئك الغافلين عنها.
وهنا لا بد من الاعتراف بان الحوزة العلمية والجامعة تضمان جيلاً واعياً يقظاً يمكنه أن يقود العملية الإصلاحية الاجتماعية، ولا شك أن أولئك المغرضين في كلا المؤسستين_الحوزة العلمية والجامعة_الذين يثيرون التشاؤم وسوء الظن سوف لن يكون لهم من اسم يذكر في صفحات تاريخ النهضات والأفكار التحررية للعالم الإسلامي.