المشهد اليمني الأول| متابعات
في دراسةٍ لها عن الحداثة العثمانية، تشرح الباحثة دنيز كنديوتي أنّه يمكن النظر الى الجدال الطويل حول «تحرير المرأة» في تركيا، الذي انطلق في أواخر القرن التاسع عشر، على أنّه صراعٌ بين رجال، يختلفون على السياسة والتاريخ والمستقبل، وجسد المرأة بالنسبة إليهم ما هو الّا «ميدانٌ»، أو حلبة يدور عليها هذا النّزاع.
ما تقصده كنديوتي هو أنّه، في خضم الجدال حول «المرأة» و»حقوقها» و»كرامتها»، ووسط تلاطم الحجج والحجج المعاكسة في تلك الفترة، لم تكن «المرأة» حاضرةً في هذا النقاش. لا هي ممثّلة ولا لها صوتٌ، بل هناك ذكورٌ، متديّنون وعلمانيون، يحتكرون تمثيل المرأة حتى وهم يدّعون «تحريرها» (العديد من الناس اليوم لا يقدّرون كم هي القيود التي كان يفرضها المجتمع الذكوري، شرقاً وغرباً، على النّساء حتّى أمدٍ قريب. في اسطنبول، مثلاً، عاصمة الإمبراطورية وحاضرتها، أُصيب مجتمع المدينة بالصّدمة خلال الحرب العالمية الأولى حين خرجت النّساء ــ للمساعدة في مجهود الحرب وإسعاف الجرحى ــ وهنّ محجّبات، ولكن من غير نقاب على وجوههن).
هذه الدينامية نفسها، وإن بصيغة «استشراقية»، اكتنفت الجدال حول «النقاب» في أوروبا خلال السنوات الماضية: في مئات الحلقات التلفزيونية والمقالات والمناظرات حول النّقاب ومعناه، وهل هو إهانة للمرأة أم خيارٌ حرّ، كانت «المنقّبة» هي العنصر الوحيد الغائب عن الطاولة. كنّا نجد اليميني العنصري، واليساري التقدّمي، والوسطي الذي يشرح موقف الحكومة، وشيخاً إسلامياً (وكلّهم لا يمكنهم أن يعرفوا معنى أن تكون امرأة أو أن تكون منقبّة)، ولكن من النادر جدّاً أن يضم هذا المسرح الخطابي منقبّة تدلي بدلوها وتشرح، ببساطة، معنى تجربتها، أو حتّى منقباتٍ بآراء مختلفة، حتى نفهم أنّ «المنقبات» لسن شيئاً واحداً أو كتلةً صمّاء. «المنقّبة» هنا هي موضوعٌ للصراع وليست طرفاً فيه.
الهدف هنا هو ليس التركيز على إشكالية «البوركيني» في فرنسا، فالقضية لها سياقها الفرنسي والقانوني الذي لا يشبه مشاكلنا (مع العلم بأنّه، بالنسبة إلى المهاجرة المسلمة التي تشعر بالإقصاء والإهانة والمضايقة، لا يغيّر في واقعها شيءٌ أن يكون وضع النساء في السعودية، مثلاً، أسوأ بكثير)، وقد كان الجهل بالسياق من الأسباب التي دفعت ببعض «المثقفين» العرب الى التهليل لفعل الشرطة الفرنسية، وتصويره على أنه فعل «تحريرٍ» وعلمانية، ولم ينتبهوا الى أنّ من يصفّق معهم وإلى جانبهم ــ في فرنسا ــ هم عنصريّون لا تهمّهم هذه المرأة العربية ولا يبغون «تحريرها»، بل يؤيدون فعل القسر ببساطة لأنهم يرون فيه إهانة للمسلمين، وتضييقاً عليهم، ورسالة بأنهم غير مرغوبٍ بهم في فرنسا. القضية ليست في «البوركيني»، بل في عقلية نخبٍ عربية لم تكشف فحسب عن ليبرالية «رثّة»، هي مظهرٌ اجتماعي أكثر منها فلسفةً والتزاماً (فهذا متوقّع)، بل أثبتت أنّ الاستشراق الداخلي والعنصرية ضد النفس، حين يمارسهما مثقفٌ محلي فوقي، لا يختلفان في شيء عن سلوك العنصري الأبيض إذ ينظر الى شعوبنا.
من دعم فعلة الشرطة الفرنسية من العرب (وهو ما لم تجرؤ عليه المطبوعات المحافظة في أوروبا) تحت حججٍ «قيمية» ومعيارية من صنف أنّ الحجاب «مهينٌ للمرأة» (حتّى ولو اختارته) لا يفهم، على ما يبدو، أنّه يستخدم مقولة يمكن أن يستند إليها أي نظامٍ رجعي للتحكّم بمظهر النساء وحريتهن، تحت شعار أنّ الثياب الكاشفة أو السفور أمام الأغراب ــ مثلاً ــ «مهينٌ للمرأة ويحطّ من قيمتها» (وكلٌّ يرى منظومته القيمية أصحّ). حين لا تعود المسألة متمحورة حول إرادة الفرد ورغبته، وقدرته على لبس ما يريد، بل حول مفهومٍ «أعلى» عن الكرامة والقيم تقرّره سلطةٌ خارجية، نكون قد خرجنا من إطار الليبرالية وأصبحنا في مجال الهندسة الاجتماعية. أمّا المقولة الأخطر، والتي تثبت كلام كنديوتي عن «نسوية الذكوريين»، فمختصرها أنّ المرأة المحجّبة، ولو قالت إنها تمارس خياراً حرّاً، فهي مستعبدة ولو عن غير وعي، أو بسبب ضغط المجتمع وثقافته ورواسبه. هكذا، أنت تجرّد المرأة من «وكالتها» بشكلٍ تام، وتسمح لنفسك بأن تتكلّم نيابة عنها كأنّك تعرف وضعها، وما تريده ومعنى حريتها وما هو خيرٌ لها، أفضل منها. المشكلة في هذه النسخة من الخطاب «التنويري» (الذي يفترض أنه قد خرج من التداول منذ عقود) هي أنّه لا يوجد هدفٌ من «تحرير» كائنٍ مجردٍ من الوكالة والإرادة لهذه الدرجة، ولا هو سيتمكّن من استخدام «الحرية» التي «تهديها» له (بالمناسبة، سؤال «الإرادة الحرة» وهل نحن أحرارٌ حقاً في أفعالنا تعالجه الفلسفة بكثافة، وقلّة نادرة من النصوص اليوم تدافع عن هذه المفاهيم القديمة عن «حرية الإرادة»، فكلّنا نتاج ماضينا ومحيطنا وتجاربنا، ولسنا أفراداً مستقلين أحراراً بالمعنى الليبرالي التقليدي حتى في القرارات اللحظية، فكيف بالعادات والمعتقد؟).
هناك قضية هامشية هنا، ولكنّ التذكير بها ضروري: لا «البوركيني» هو، بالمعنى الشرعي، «حجاب»، ولا المسلم المتديّن (رجل أو امرأة) يفترض به أن يذهب الى شاطئ يتعرّى عليه النّاس؛ لهذه الأسباب، فإن القضية ليست ــ حرفياً ــ قضيّة «حجاب» ولا يوجد ــ منطقياً ــ «سؤال شرعي» حول «البوركيني» واللباس الواجب للمسلم على الشاطئ. العبرة هنا هي أنّ، في الممارسة، المسألة ليست محصورةً بين خيارين، كما يدّعي أكثر من يناقش الموضوع. هناك نساءٌ يرتدين النقاب، ونساء محجّبات، وأخريات يلبسن الحجاب لكنهنّ يذهبن الى الشاطئ للسباحة، وسافرات يرتدين ملابس محتشمة لأسباب دينية، الخ… هذه «الدرجات» والفروقات، واختلاف الممارسات والتفسيرات وتنوعها، هي الشكل الحقيقي للمجتمع، وهي ميدان الصراع والجدال لمن شاء، وليس الثنائيات المثالية من نوع «حرّة/ مستعبدة» التي لا توجد إلا في رؤوس الذكوريين من كلّ الأصناف، يفرضونها على النساء فتصير لهنّ سجناً (دائماً تحت شعار الحرص على المرأة، أو احترامها، أو تحريرها، أو تنجيتها من النار، الخ).
المسألة الأساس هي أنّ المتديّن النخبوي الرجعي يشبه الملحد المتطرّف «الغرباوي» في أنّ الاثنين يكرهان مجتمعهما «كما هو»، ويعتبرانه «فاسداً» أو «متخلّفاً»، ويحملان «مسطرة» صارمة يحاولان ترويض نسائنا ورجالنا على مقاسها. كما ذكّرنا الكاتب محسن المحمّد في مقالٍ أخير له، فإن التراث الإسلامي يحفل بتياراتٍ كانت تعادي الذكورية والنظرة الجنسانية الى المرأة، من أبي ذرّ الغفاري إلى ابراهيم بن أدهم إلى ابن رشد. وقد عاش ملايين المسلمين، على مدى التاريخ، في ظلّ مدارس دينية لا تنظر الى المرأة كغرضٍ جنسي، وتعارض الزواج المتعدد والرق، ولا تحمل فكرةً حسيّة ذكورية عن الجنّة والآخرة. حتّى نوجّه الأسئلة الصحيحة ونبحث عن أسباب التطرّف والفاشية في الحاضر ــ كما اقترح المحمّد في مقاله ــ لا في الماضي والتراث، ستظلّ قضيّة «الحريّة» أسيرةً بين الرجعية الاستعمارية الغربية من جهة، والرجعية المحلية من جهةٍ أخرى، والاثنان يتحالفان ويتصارعان على أجسادنا.
*عامر محسن (الأخبار)