المشهد اليمني الأول/
أصبح المبعوث الدولي لليمن البريطاني مارتن غريفث الممثل الأممي الأكثر زيارة إلى صنعاء وتفوق على السيد المحترم الموريتاني جمال بن عمر الذي قاد مفاوضات مماثلة في العام 2011-2015 وكذلك زميله إسماعيل ولد الشيخ 2015-2017 ، ليس فقط بسبب تعقيد الملف اليمني ولكن بسبب استمرار السعودية في انتظار أن تعود كما كانت في السابق إلى موقع الوصاية حتى من خلال المفاوضات التي يفترض أن تكون يمنية يمنية ، والمفارقة التي بجب أن تلاحظها الرياض هو تغير ” المهام ” و ” الأجندات ” التي يحملها مبعوثي الأمم المتحدة ، لقد باتت هذه المهام مختلفة تماما ولصالح اليمنيين الذين يقودون تيار واسع يرفض استمرار وجود اليمن ضمن المربع ” السعودي الأمريكي الإسرائيلي ” ويريدون التموضع في مكان يليق باليمن العربي القومي المحافظ المناصر لقضايا الأمة وأولها القضية الفلسطينية.
في العام الماضي 2018 كان مارتن غريفث يحمل في حقيبته الدبلوماسية خارطة طريق تنص على محاولة إيجاد مرحلة انتقالية يتفق عليها الفرقاء اليمنيون بما في ذلك من يعتبرون حلفاء للرياض وأبوظبي ، كان بالإمكان الشروع في تحويل الخارطة إلى واقع ، لكن ذلك لم يحدث بسبب التعنت السعودي واستمرار فرض شروط كثيرة ولا تخفي السعودية أن تتضمن هذه الشروط فرض وصايتها بحجج الأمن القومي السعودي ، الخليجي ، الإقليمي ، الدولي ، وكان اليمن الذي لم يتعافى ولم يسمح له سعوديا ، أصبح يشكل خطورة بالغة التعقيد وتحتاج إلى كل هذا الإصرار والتمسك بإن تكون الكلمة الفصل في شأن اليمن الداخلي والخارجي يجب أن تأتي من قصر ” اليمامة ” وليس من بيت الرئاسة اليمنية في العاصمة صنعاء ! عاصرنا هذا وكنا نشعر به ونلمسه تماما ، لكن في المقابل كان على شعب هذا البلد أن يغترب ” بالملايين ” ليعمل في دول الخيلج ، بسبب الفقر المفروض عليها فرضا ، جزء رئيسي من أسباب العدوان عليه هو تململه وتمرده على هذا الواقع ، وبالمناسبة لا تتحرج ” السلطات السعودية ” في التفاخر بذلك ، حتى أن الكثير منهم لايدرك أن يتجاوز عندما يقول أن اليمن ” حديقة خلفية ” للسعودية ، وبوابه جنوبية لها ، وبالتالي فإن وضع اليد عليها لا يعتبر تدخلا سافرا وغير مقبول في الأعراف والقوانين الدولية !
صحيح أن انحراف المسار بدأ منذ ستينات القرن العشرين الماضي بعد أن فتحت اليمن على مصراعيها للتدخلات الخارجية ، والعربية تحديدا ، بسبب انهيار النظام ” الملكي ” وتشكلت الجمهورية اليمنية ، كان هذا التشكل ضعيف وهش واستعان كل فريق بطرف إقليمي ، تحولت الإستعانة إلى وصاية ، للحد الذي سجنت حكومة يمنية بكامل أركانها في دولة عربية أخرى ثلاثة أشهر ، وهي ظاهرة لم تحصل أبدا من قبل ، ذلك أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر ، طلب لقاء حكومة المشير السلال إلى القاهرة 1994 وكأن يرأسها محمد النعمان ، ولما وصلت إلى القاهرة أمر جمال عبد الناصر بإيقافها واحتجاز الوزراء الذين قدموا ! ولكم أن تتخيلوا كيف كان شعور اليمنيين حينها . وحين تغيرت الأمور قليلا انتقلت الوصاية من مصر إلى السعودية ، لقد فرضت هذه الأخيرة ذلك بعد أن اغتالت الرئيس الشهيد ابراهيم الحمدي اكتوبر 1977 ، لن أغرق طويلا في هذا ولكن أريد أن ألفت الرياض إلى أن هناك تغييرا كبيرا في اليمن عليهم إدراكه ، لم تعد الأمور كلك ، حتى هذا الجيل لا يقبل ، لا يستصيغ أن تبقى دولته تابعة ، لم يعد أحد يتقبل أن ينتظر الأباء والاخوة سنوات حتى يعودوا من بلد الإغتراب السعودية ، لإن بلاده فقيرة وممزقة وهشة بسبب السعودية أيضا.
أعود إلى مارتن غريفث، وكيف أن حقيبته باتت تحمل محاولات لإيقاف التصعيد اليمني ، الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية ، هذه مقارقة بالنسبة لكل يمني كبيرة جدا ، نشعر أننا نصنع معادلة كبيرة أكبر من كوننا نبحث عن الاستقلال وامتلاك القرار ، بات اليمن يوجع اليد التي امتدت عليه ، ذلك تحول كبير ، يريد غريفث أن يتوقف الرد العسكري الذي تنكره السعودية جهرا وتطالب به من تحت الطاولة ، هذه هي الحقيقة . لقد وضع مارتن غريفث أمام السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي ورئيس المجلس السياسي الأعلى مهدي المشاط ورئيس الحكومة الدكتور عبدالعزيز بن حبتور ورئيس مجلس النواب الشيخ يحيى الراعي طلبا سعوديا بوقف الهجمات على العمق السعودي ، ولكن ذلك بمقابل وهو ماعاد به السيد مارتن غريفث ، يجب أن تتوقف هجمات السعودية بشكل كامل وتدعم مبادرة الرئيس المشاط 20سبتمبر ، والعودة مجددا إلى طاولة المفاوضات.
صحيح أن السعودية لا تزال غير مقتنعة بالاعتراف بالهزيمة والفشل ، ولكن لم يعد بوسعها أن تقوم بأكثر مما قامت به ، وفي المقابل لم يعد بإمكان اليمن أن يتلقى الضربات فقط ، لقد بات بالمقدور نقل النيران إلى الداخل السعودي حيث المنشآت النفطية المهمة وحيث عمود قوة السعودية ، هذا الأمر محسوم ، تتجاهله الرياض ، تنسبه لإيران ، هذا شيء آخر ، لكنها تستجيب للمخاوف ، هي تعلم مصدر ذلك ، لم يعد محمد بن سلمان يريد أن ” يشنق ” أحد باب اليمن بالعاصمة صنعاء ، كما كان يقول إعلامه ، لقد بات هو ” يريد حلا سلميا اليوم قبل الغد ” هذا ما قاله لمذيعة cbs الأمريكية في آخر مقابلة له ، وهذا ما يطرحه مارتن غريفث ، أما ما عاد به من العاصمة صنعاء فهو التلويح مجددا بأمرين ، الاستجابة للمبادرة والعمل للخروج من العدوان والعودة للمفاوضات الندية ، أو ” الوجع الكبير ” أي العودة لاستهداف ما يوجع السعودية.
عملية نصر من الله البرية التي كشف عنها مؤخرا وأضرت مجددا بسمعة السعودية وأسقطت تماما ما يمكن اعتباره الجيش السعودي الذي بدا أنه يعتمد على الآلآف من ” المرتزقة ” وهذا السقوط الكبير لكل ما جمعه في محور نجران ، يدفع السعودية بلا شك إلى بداية تفكيك عقدها والعمل للخروج من هذه الحرب ، ندرك ذلك، وأصحاب الشأن الذين يتلقون رسائل ووسطاء وحديث ودي من أطراف لم تكن ودودة على الإطلاق يسربون ، والواقع يوحي بأن وقف الحرب وشيك.
ـــــــــــــــــــــــ
طالب الحسني