المشهد اليمني الأول/
بقي العدو الإسرائيلي عقب بدء الحرب على سوريا، يستخدم أدواته التكفيرية في الداخل، بهدف إخضاع الدولة قيادة وشعباً، وإسقاط النظام السياسي، والرئيسها المنتخب شرعياً، إلى أن وصلت القيادة الأمنية الإسرائيلية إلى نتيجة مفادها: استحالة أن تنجح هذه الجحافل التكفيرية بالمهمة التي أوكلوا بها على الرغم من كل أنواع الدعم المقدم، فماذا قررت تل أبيب أن تفعل؟
أول خطوات “إسرائيل”، بعد إنهيار وكلائها المحليين في سوريا، كانت الدخول بشكل مباشر إلى ساحة الصراع، وبدأت الغارات العدوانية بتاريخ الـ30 من كانون الثاني/يناير 2013، وأبرز استهدافاتها قصف موقع صواريخ أرض – جو، ومجمع عسكري (زعمت واشنطن وجود مواد كيميائية داخله) قرب دمشق، وبتاريخ 3 و5 أيار/مايو، شنت الطائرات الحربية المعادية غارتين، استهدفتا مركزاً للأبحاث العلمية في جمرايا في ريف دمشق سبق أن أصيب بغارة الـ30 من كانون الثاني/يناير، إضافة إلى مخزن أسلحة كبير ووحدة دفاع قرب العاصمة السورية، وتوالت الاعتداءات والغارات خلال الأعوام اللاحقة، والذريعة الإسرائيلية كانت جاهزة دائماً، وهي استهداف مستودعات أسلحة وذخيرة للمقاومة الإسلامية وإيران، وبالطبع فإن ذرائع “إسرائيل” كانت واهية لسببين رئيسيين:
أولاً: كي تحافظ على ادعاءاتها الكاذبة بأنها غير معنية بساحة الصراع السوري وهي تنأى بنفسها عنها…
ثانياً: كي تدّعم بها البيت الإسرائيلي الداخلي المتهالك، وتظهر بأنها مسؤولة دائماً عن حماية أمنها وحريصة على ألا يصل أي سلاح إلى المقاومة في لبنان.
فإذاً، استمر العدوان الإسرائيلي بشكل دوري إلى أن استهدفت غارة معادية هضبة الجولان (مزارع الأمل في القنيطرة) بتاريخ 18 كانون الثاني/يناير 2015، وأسفرت عن استشهاد ستة عناصر من المقاومة الإسلامية بينهم، المقاوم جهاد مغنية (نجل الشهيد القائد عماد مغنية)، إضافة إلى ضابط في الحرس الثوري الإيراني، وهو ما علق عليه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بأن “لم تعد هناك ساحة واحدة للمواجهة مع العدو”، مكرساً للمرة الأولى، مبدأ وحدة ساحات المواجهة، في إشارة إلى أن أي مواقع إسرائيلية في لبنان أو غيرها ستكون بعد هذا اليوم هدفاً مشروعاً للمقاومة الإسلامية، وأن الرد آت لا محالة، وهذا ما كان بالفعل، بتاريخ 28 كانون الثاني/يناير 2015، حيث صدر عن المقاومة الإسلامية في لبنان، البيان رقم (1) وجاء فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: عند الساعة 11.25 من صباح هذا اليوم ، قامت مجموعة شهداء القنيطرة الأبرار في المقاومة الإسلامية باستهداف موكب عسكري إسرائيلي في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، مؤلف من عدد من الآليات ، ويضم ضباطاً وجنوداً صهاينة ، بالأسلحة الصاروخية المناسبة ما أدى إلى تدمير عدد منها ووقوع إصابات عدة في صفوف العدو. وما النصر إلا من عند الله العزيز الجبار.
أدرك العدو الإسرائيلي حينها أن قواعد الاشتباك أصبحت مختلفة كلياً عن السابق، وإن استمر هو بإدارة الفوضى بين الحين والآخر، ضمن منهجية تحدث عنها ذات مرة السيد حسن نصر الله، وأطلق عليها مصطلح معركة بين الحروب، بمعنى أن العدو الإسرائيلي يقوم بافتعال أزمات واعتداءات.
هي أكثر من معركة، ولكنها أقل من حرب، ربما ليحافظ على ما تبقى من ردع تآكل حتى بات لا يستطيع الرهان عليه في أي حرب قادمة مع محور المقاومة، وفي الوقت ذاته محاولة لإبقاء عنصر الاستنزاف موجوداً على المدى القريب والمتوسط….
وفي المحور، لا بد من الحديث عن دور “عامود خيمة المقاومة”، فدمشق تعلم يقيناً سعي العدو للاستنزاف أو جر القوات السورية والحلفاء إلى حرب تريدها “إسرائيل”، من دون أن تغفل بلاد الياسمين الدفاع عن سيادتها أمام كل ضربة معادية،وهو ما أثبتته الدفاعات الجوية المتأهبة دائماً كسد منيع بوجه الإسرائيلي وحتى مقابل أي عدوان خارجي، وليس بعيداً عن ذلك التصدي للثلاثية الأميركية البريطانية الفرنسية الأخيرة، المشابهة لعدوان 1956 على مصر 1956، حيث تمكنت دمشق من إسقاط عشرات الأجسام المعادية من مجمل 110 صاروخ، بينها توماهوك، أطلقتها القوات الغربية من عرض البحر المتوسط بتاريخ 13 نيسان/أبريل 2018…
وعلى الرغم من البروباغندا الغربية والخليجية عن استخدام دمشق أسلحة كيميائية، التي شكلت غطاءً إعلامياً لضربات الثلاثية، إلا أن مفارقة تسجل للتاريخ هي الحضور الجماهيري المؤيد للقيادة السورية…
وهنا أستذكر تلك الليلة تماماً، عندما كنت أشاهد سماء دمشق تشتعل، وكيف كان السوريون يصعدون إلى أسطح منازلهم في تحد واضح للعدوان الخارجي، وكيف غصَّت الساحات العامة حتى ساعات الفجر الأولى بالسوريين وهم يرفعون العلم السوري وصور الرئيس السوري بشار الأسد، والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.
نعم أثبت هذا الشعب إرادة لا تقهرها الحرب، وأثبتت الدولة السورية أنها جاهزة للتصدي لأي عدوان مهما كبر حجمه أو صغر، وإن حاول البعض عن قصد (أفراد الطابور الخامس) أو عن غير قصد (المندفعون بعواطفهم) أن يحجّموا أو يقلّلوا من قيمة هذا الانتصار، فالنوع الثاني نقدِّر مشاعرهم كثيراً، فهم ينطلقون من دافع الغيرة الوطنية على بلدهم ، إلا أن النوع الأول ينشط بخبث بُعَيد أي عدوان لإشاعة أجواء الهزيمة والتوجه بسؤال ملغوم وهو، لماذا لا تفتح دمشق الحرب على “إسرائيل وتقوم بقصف تل أبيب؟؟ فإذا هي عاجزة ومهزومة….
وهنا لا بد أن نعيد التأكيد على المعطيات التالية:
إن الحرب محكومة دائماً بحسابات إستراتيجية ومعادلات وتوازنات إقليمية ودولية، ومما لا شك به أن القيادة السورية تجيد اللعب كثيراً على هذه التوازنات، فهي لن تسمح لكيان العدو (في الوقت الذي يريد) أن يستفزها ويأخذها مع حلفاءها إلى حرب شاملة تعلم تماماً الهدف منها…
توجهت ذات مرة إلى مسؤول عسكري سوري كبير، قائلاً: “لماذا يتهمونكم بالضعف، وأنكم عاجزون على الرد؟ ولكي لا أظلم الجميع بأن لهم نوايا تصب في زعزعة الشعور الوطني لدى المواطن السوري بدولته، فالبعض الأخر ينطلق من عواطفه الوطنية النبيلة.
فرد قائلاً: “نحن دولة، والدولة لا تتعاطى بمنطق العواطف أو تنقاد بها خاصة في زمن الحروب، وإنما تتعاطى بمنطق ومفهوم الدولة، وحساباتها المعقدة في هذا الشأن”.
لذلك نقول إن العدو الإسرائيلي سيستمر بالقيام بدوره الأصيل في الحرب المفروضة على سوريا، إلا أنه سيبقى عاجزاً عن الوصول لهدفه، وأكثر ما يستطيع تحقيقه هو استهداف مخزن هنا أو مستودع أسلحة هناك، لن يكون لها أي تأثير على ميزان القوة الرئيسي لدى الدولة السورية.
أمين سر مجلس الشعب السوري خالد العبود أكد لي، ذات مرة، أن “على الرغم من كل سنوات الحرب، فإن المخزون الاستراتيجي (الاحتياطي) من السلاح لدى سوريا لم يُمَس، وهو بمكان آمن لاستخدامه وقت الحاجة، أي عندما تحين ساعة الصفر للحرب مع العدو الإسرائيلي”، وهو أمر تطابق مع ما قاله لي الرئيس السابق للجنة الأمن القومي في مجلس الشعب اللواء ابراهيم المحمود.
أقول للشعب السوري، إنك شعب أبي عظيم، نعي تماماً حجم الحزن والدمار النفسي والاجتماعي والاقتصادي الذي أصابكم، ولكن ما نعيه أكثر أن هذه الأرض مر عليها الكثير من المحتلين، وهُزموا شر هزيمة، بفضل وطنيتكم وثباتكم وصمودكم، دفعتم الغالي والنفيس، وهذه نتيجة طبيعية ومنطقية لأية حرب، ومن قال إن الحرب نزهة؟؟؟
الحروب تكتب مستقبل أوطان بأكملها ولأجيال قادمة، وأنتم الآن تخطون بدمائكم فصول انتصارها، كونوا على ثقة بأنكم المنتصرين، وتذكروا دائماً أنكم لا تضحون فقط لأجل حياتكم ومستقبلكم، فهناك أبنائكم وأحفادكم الذين سيحيون بفضل هذه التضحيات، تماماً كما نحيا نحن الآن بفضل تضحيات آباءنا وأجدادنا، لذا كونوا حريصين على جعل مستقبلهم أفضل، مستقبل ينعم بالانتصار والأمن والسلام…
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عامر أبو فراج