المشهد اليمني الأول/
الانهيار والضياع.. باختصار هذا ما وصل إليه الحال في اليمن، بعد 5 سنوات من القتال المستمر والمكلف، وانسحاب إماراتي ترك المملكة وحدها في الميدان، محولًا مطاراتها ومنشآتها الحيوية والبترولية إلى أهداف وحيدة أمام الأسلحة اليمنية الصاروخية، والتي فشلت كل وسائل الدفاع الجوي معها، وباتت مقررًا يوميًا، خصوصًا في منطقة الحد الجنوبي.
قراءة الانسحاب الإماراتي هي مفتاح فهم الموقف الجديد، الطارئ على شبه الجزيرة العربية، فكل التحليلات على مدى أسبوع كامل، ركزت على ما بعد الانسحاب الإماراتي، ولم تقرأ أسبابه، وقصرت بالتالي في فهم تداعياته على مستقبل بات يعرض نفسه أمامنا، بكل ما يحمله من تغيرات، وآمال صاعدة بسرعة صاروخ يمني، لا يخطئ هدفه.
الصمود اليمني الإسطوري كتب، منذ البداية، فشل العدوان السعودي، وخرجت التحذيرات –وأحيانًا النصائح- لمحمد بن سلمان، تطالبه بالتراجع عن حربه الخاسرة في الهضبة اليمنية القاسية، التي استعصت حتى على بريطانيا، يوم أن كانت إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، ولعله من المفيد تذكر أن محمد حسنين هيكل، الكاتب العربي الأشهر، كتب متنبئًا بنهاية شكل الدولة السعودية، الذي نعرفه منذ ثلاثينيات القرن الفائت، على يد أبناء اليمن.
واستمرت الحرب بدفع من غرور المال، وحده، وخرجت الصحف والمجلات الاقتصادية الغربية بتقديرات مخيفة لتكاليف الحرب وصفقات السلاح، التي عقدتها كل من السعودية والإمارات –”فورين بوليسي” قالت إن صفقات السعودية العسكرية وصلت إلى 750 مليار دولار بدون حساب الصفقات الإماراتية- ويدخل بالطبع في حساب التكلفة شراء صمت مجمع المصالح الغربي الضخم، للسكوت عن الجرائم ضد الإنسانية والحصار المفروض على اليمن، والذي يمنع دخول الأغذية والأدوية وتجهيزات المستشفيات، ما أطاح بقدرة القطاع الصحي بهذا البلد على تقديم الخدمات الطبية.
أي أننا أمام أكثر من تريليون دولار، بدون أي مبالغة، دفعت ولا تزال، لمجمعات السلاح الغربية، خصمًا من احتياجات الشعوب العربية من ثرواتها، وحرمانًا للأجيال القادمة من مخزونات النفط المحدودة، بغير اكتراث بمستقبل سيجيء حتمًا، والأخطر أن شعبًا عربيًا آخر يدفع من دماء أبنائه الثمن الأفدح.
ولو أننا تخيلنا شل آخر لحركة التاريخ العربي، خلال السنوات الماضية، كأن تنفق كل تلك الأموال في البلدان العربية، التي تعوزها الاستثمارات الضخمة، وتلجأ في عجز وذل شديدين لصندوق النقد والبنك الدوليين للحصول على احتياجاتها، مقابل شروط مجحفة، فإن المملكة كان بمقدورها أن تحقق كل ما تريد –وربما أكثر- لو فضلت للحظة أن تحقق مصالحها وتربط وجودها بمصالح جيرانها وخيرهم.
التخطيط السعودي، ومنذ بداية الحرب العدوانية، خاصم كل حساب عقلاني أو منطقي، كانت الرغبة في أن يحوز وزير الدفاع نصر عسكري سريع تجب كل ما عداها من تخوفات، النزهة طالت إلى سنوات خمس، وتحولت منذ عام ونف إلى استنزاف لا يطاق لكل عوامل القوة الحقيقية للمملكة، وهي عوامل دينية “مقدسة” بصفتها مسيطرة على الحرمين الشريفين، وكانت تجعل منها مؤثرًا في منطقتها، وبإضافة المداخيل البترولية الهائلة، استطاعت المملكة أن تفرض سياستها بشكل واسع في الشرق الأوسط، وتحولت إلى الحليف الثاني للولايات المتحدة، بعد الكيان الصهيوني، في ترتيب سلم الأهمية والحماية.
حرب اليمن خاصمت عوامل القوة التقليدية للسعودية، وخصمت منها الكثير، وصولا إلى تبديدها بالكامل، فشاهدنا –لأول مرة تاريخيًا- دعوات شعبية لمقاطعة الحج والعمرة، حركتها النقمة على “بن سلمان”، وعلى التصرفات العدوانية تجاه الشعوب العربية.
الأخطر أن تعامل السعوديين مع تبعات حرب اليمن تصب كلها في اتجاه إلقاء اللوم على الجمهورية الإسلامية، وعلى “أنصار الله”، وكأنه من المفروض والواجب أن يخاصم شعب مسلم شعب آخر يتعرض لعدوان شيطاني، أو أن يتخلى المواطن اليمني عن سلاحه، ويقف عاريًا مبتسمًا في وجه غارات آل سعود!.
السياسة الخارجية السعودية، في هذه اللحظات، مثل المرأة الدميمة، تلعن المرآة التي لا تظهر جمالها، وتلقي عليها باللوم، وتحطمها في غرور مشوب بالقلق والعنف، وكأن المشكلة في الصورة المنعكسة، لا الأصل القبيح.
الكاتب العربي الأشهر، محمد حسنين هيكل، توقع فور التورط السعودي في اليمن، أن تُغير اليمن شكل المملكة العربية السعودية التي نعرفها منذ ثلاثينيات القرن الماضي، الرجل كان قارئا جيدًا، وهو أفضل صحفي عربي على الإطلاق، وكان الأكثر ذكاءًا وتمتعًا بالفهم والقدرة على التحليل، ولا يبدو أن المستقبل سيخاصم توقعاته.
الشعب العربي في اليمن، وفي القلب منه “أنصار الله”، والسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، أثبت فعلًا وقولًا أنه المؤتمن على راية، تدق مع خفقاتها كل رموز الشرف والإرادة، وكأن التاريخ وقف مشدوهًا في لحظة مجد شامخة، يسجل لأبناء اليمن، بمداد العزة، الانكسار الأهم للإمبراطورية الأميركية، ومن والاها، في وطننا العربي.
(أحمد فؤاد – كاتب من مصر)