المشهد اليمني الأول/
عندما يأتي الرد على عقد مؤتمر تصفية القضية الفلسطينية في المنامة بتحويل العاصمة البحرينية الى غابة من الاعلام الفلسطينية، وعندما تقاطع معظم الدول العربية هذا المؤتمر، ويقتصر حضوره على ممثلي حكومات تحالف “الناتو العربي”، فان هذا يلخص لنا حقيقة المشاعر الشعبية تجاه هذه المؤامرة الامريكية التي جاءت تكريسا لنهج الإدارة الحالية التي تتعمد اهانتنا واذلالنا، ويبشرنا بصحوة قادمة، وربما وشيكة، لوضع حد لمسلسل الخنوع والاستسلام.
انتظرنا ان نطّلع على بيان سواء من الدولة الداعية (أمريكا)، او الدولة المضيفة (البحرين)، على أسماء الدول المشاركة في هذا المؤتمر، ولكن هذا الانتظار طال حتى بدء جلساته، وتربُع جاريد كوشنر رئيسه على المنصة والبدء في القاء محاضرته كالاستاذ، واستعراض خبراته العقارية امام الحضور الذين احتشدوا على استحياء للاستماع اليه، والاطلاع على وسائل ايضاحاته، ولوحات ارقامه، متجنبين في الوقت نفسه عدسات كاميرات التصوير حتى لا توثق فضيحتهم. في هذه اللحظات المفصلية في تاريخ الأمم تظهر معادن الرجال، وتتجسد قيم الشرف والكرامة والوطنية، ونشهد ان الذين قاطعوا مصيدة الخيانة هذه، هم الفرقة الناجية، التي تبرأت من هذا الدنس، وفضلت تجنب التلوث بكل ادرانه ونجاسته، داخله صفحات التاريخ المشرفة من اوسع ابوابها.
***
نتفق مع العبارة الأقوى التي وردت في خطاب كوشنر وقال فيها انها “ليست صفقة القرن وانما فرصة القرن”، نعم انها فرصة القرن أرادها ان تكون نقطة الانطلاق “لتعريب” خطوات تصفية القضية الفلسطينية التي يقودها وحماه الرئيس، ومجموعة من اليهود الصهاينة، وكبيرهم الذي علمهم العنصرية والاضطهاد، والقتل، والاغتصاب، بنيامين نتنياهو.
كنا من بين المستمعين عن بعد لخطاب كوشنر، ولم يفاجئنا عندما لم يتلفظ بكلمة الدولة الفلسطينية، وكان يقول “الناس” في إشارة الى أهلنا في غزة.. وفي الضفة الغربية، وكأنه يقول ان هؤلاء ليسوا شعبا، بل ليسوا بشرا، مجرد ارقام بلا هوية، وبلا اسم، ويجب التعاطي معهم على هذا الأساس فقط، اما السادة والجنس النقي فهم الإسرائيليون، ونستغرب لماذا لم يصفق له الحضور وهو يستمع الى هذه “الدرر”.
امارس مهنة الصحافة والكتابة منذ اربعين عاما، ولم يخطر في ذهني في أي يوم من الأيام ان أرى الصحافيين الإسرائيليين يتجولون بكل حرية وامان في عاصمة عربية، وزادت المرارة في الحلق عندما شاهدت هؤلاء يتباهون بجوازات سفرهم الإسرائيلية امام كاميرات زملائهم المصوريين الإسرائيليين، وكأنهم يمدون السنتهم لنا واعلاميين مثلنا.
ان يتواجد توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق في الصفوف الاولى، الذي ما زالت آثار دماء ثلاثة ملايين من أطفال العراق وماجداته ورجاله الابرار على يديه، فهذا يكفي لتخليص واختصار العناوين الرئيسية للمخطط الأمريكي الإسرائيلي الذي ينطلق قطاره من المنامة لوضع المنطقة العربية تحت الانتداب الإسرائيلي، وصولا الى إسرائيل الكبرى.
كوشنر وفي مقابلته التي خص بها قناة “الجزيرة” تعاطى بإحتقار شديد مع مبادرة السلام العربية التي صدّع قادة عرب رؤوسنا بتكرار الحديث عنها، والعروض المغرية للتطبيع التي تضمنتها، عندما قال انها لم تحقق السلام، ولا بد من صيغة وسط بينها وبين الموقف الإسرائيلي، وكأنه يوجه اللوم لأصحاب حقوق النشر على فشلها، ولم يقل لنا ان نهذا الموقف الإسرائيلي هو ابتلاع كل فلسطين وطرد أهلها، ومحوها الى الابد من خريطة المنطقة.
لا نعرف كيف يجلس ممثلي حكومات عربية وكأن على رؤوسهم الطير، وكوشنر يقول لهم ان إسرائيل دولة ذات سيادة، ومن حقها ان تحدد عاصمتها، وكأن هذه العاصمة (القدس) ليس لها أي قيمة دينية او معنوية او ووطنية لدى معظم المشاركين.. اين النخوة والعزة والكرامة والعقيدة؟
الذين حضروا مؤتمر المنامة لم يكن حضورهم من اجل القدس، او فلسطين، او لنصرة أي قضية عربية، او إسلامية، وانما من اجل اظهار ولائهم للرئيس ترامب وصهره، وإظهار دعمهم لحروبه الوشيكة التي ستدمر دولهم قبل تدمير دولة إسلامية اسمها ايران، فهؤلاء سيكونون وقود هذه الحرب واحد ابرز أهدافها الى جانب صديقتهم الجديدة دولة الاحتلال الإسرائيلي.
الحق العربي الإسلامي لم يمت بصدور وعد بلفور، ولم يندثر من جراء نكبة عام 48، ولا نكسة عام 67، ولن تمحوه صفقة قرن كوشنر وحماه ترامب، وكل المتواطئين العرب اللذين هرولوا الى المنامة بإشارة من اصبعه.. الحق العربي سيظل راسخا وستتم نصرته على ايدي ملايين الرجال الشرفاء، وما اكثرهم في هذه الامة.
الشعب الفلسطيني الذي جرى حصاره وتجويعه في قطاع غزة والضفة الغربية ومخيمات اللجوء في دول الجوار لن يقبل هذه الرشوة المسمومة، وكل تريليونات العالم لن تغريه بالتنازل عن يافا وحيفا والقدس وعسقلان، وكل النجوع والقرى والمدن الفلسطينية الأخرى، وسينزل الى ساحات المقاومة بكل اشكالها مضحيا بحياته ودمائه مثلما فعل شبابه وماجداته في القدس ونابلس وجنين وغزة، انهم لا يعرفون هذا الشعب، وسيعرفونه قريبا بإذن الله.
***
الثورة الفلسطينية لم تتفجر من اجل محطة كهرباء، او محطة تحلية، او مشاريع خلق وظائف، او تخفيض نسبة الفقر، مثلما قال كوشنر، وانما من اجل ثوابت العودة، وتحرير فلسطين، كل فلسطين من النهر الى البحر، وليقل كوشنر ورهطه ما يشاء.
نكتب بعاطفة، ونترك الفذلكات لمن يطلقون على انفسهم صفة المحللين والخبراء، فهذا زمن الصحوة والتوعية والوقوف في خندق المقاومة، فأين اوصلتنا تحليلات المحللين المعتدلين وخبراء بيع الوهم؟ لان الخطر القادم على الامتين العربية والإسلامية خطير جدا، ولا يمكن مواجهته بالاستسلام تحت عنوان “العقلانية” والقبول بالفتات، والمقدسات وارضها تهود امام اعيننا.
شكرا لكل الدول التي رفضت ان تكون جزءا من هذه المؤامرة، ولم تشارك فيها، رضوخا لإملاءات كوشنر ورئيسه، شكرا من القلب للبنان والعراق والكويت والجزائر، وكل الدول العربية الأخرى التي فضلت النأي بنفسها عن هذه المصيدة الإسرائيلية، وانحازت الى الكرامة الوطنية والثوابت العربية والإسلامية، ولا ننسى في هذه العجالة شعوب المغرب وتونس واليمن ومصر، وكل الشعوب الأخرى التي انتفضت وانتصرت لفلسطين واقصاها.
كل من شارك في هذه المؤامرة ويوظف أموال الامة في دعمها وتمريرها سيدفع ثمنا باهظا، فالزمن يتغير والمعادلات تتغير، والسنوات السمان بدأت وبسرعة قياسية، وثقافة المقاومة، ورايات رجالها تعود وقد يكون الفضل بصفقة القرن وكوشنر وحوارييه.. والأيام بيننا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبدالباري عطوان