المشهد اليمني الأول/

كان طموح محبّي اليمن، أن يتمكّن أهله الشجعان من الدفاع الحصري عن مواقعهم في وجه عدوان سعودي إماراتي بمشاركة سودانيّة ومجنّسين باكستانيين في جيوش الخليج ودعم أميركي ومصري وإسرائيلي بحراً وجواً وبراً. فهذا الخلل القويّ في موازين القوى والحصار المفروض على اليمن، كانا مثيرين للقلق على مستقبل اليمن العاصي دائماً على كل احتلال.

وكعهد التاريخ بهم، خاض اليمنيون حربهم الحالية بنفَس طويل مدعوم بصبر المؤمنين كاشفين مدى عنايتهم «العلمية»، وذلك بدفع المهاجمين الخليجيين الى التمدّد الكبير في مساحات كبيرة ومنبسطة مع «كشافين» من جماعة عبد ربه منصور هادي، متمكّنين من كبحه عند حدود اليمن الجبلي المنيع ومعاودين الانقضاض عليهم على أكثر من جبهة داخلية.

حتى تحوّلت مدينة الحديدة وسواحلها الى «ستالينغراد» عربية أبهرت المتخصّصين في استراتيجيا الحروب.

كيف فاجأ اليمنيون الجميع بقدراتهم المتواضعة على الانتقال من الدفاع في الجبال الى الهجمات في الداخل السعوديّ وتهديد الوظيفة النفطيّة للسعودية والإمارات معاً.

قامت الخطة اليمنيّة على استدراج العدو اولاً والصمود في مناطق صعبة، مع مشاغلة المهاجمين في أكثر من نقطة من الجنوب والشرق والسواحل.

فما يكاد جيش العدوان يدخل منطقة حتى يتفاجأ باندلاع معارك في نقاط كان يعتقد أنه قضى عليها… هذا ما جعل الاجتياح السعودي الإماراتي يشعر بأنه لا يمسك بتمكّن من أي منطقة يجتاحها. وأدّى من جهة ثانية الى إطالة المعارك الى سنين أربع مفتوحة على أوقات جديدة، فتشجيع أهالي الجنوب اليمني على التعبير عن رفضهم للاجتياح الإماراتي السعودي كاشفين أنه مجرد استعمار يريد تقاسم مناطقهم، حسب أهمياتها الاستراتيجية والاقتصادية الطاقة والسياحية.

تلا هذا، الصمود اليمني «الجبلي» معارك كرّ وفرّ منهكة لجيوش العدوان، لأنها تتواصل في مناطق مفتوحة فأصبح بوسع الدولة اليمنيّة أن تستقر في مناطق منيعة عاصية على جيوش الخليج وحلفائهم، مع رعاية هجمات في أي موقع من اليمن المحتل.

وسرعان ما تبين أن هذا اليمن ينخرط في حرب مدروسة بدقة على الرغم من الإمكانات الضئيلة التي يمتلكها… فاذا كانت السعودية ومعها الإمارات لا تنتجان إبرة بسيطة وتستوردان لباس الرأس العربي في بريطانيا للاغنياء وتايوان للفقراء، فإذا اليمن لا ينتج فقط الالبسة التقليدية لأهله بل يصنع طائرات مسيّرة اخترقت نظام الهيمنة الأميركي وآلاف الرادارات وأجهزة الاقتفاء والتتبع الخليجية.

الامر الذي كشف انّ الطائرات اليمنية المسيّرة اخترقت الغطاء الأميركي للخليج، وتلاعبت بالدعم الإسرائيلي ـ المصري الاوروبي لتسجل ضربة موجعة، لكل الذين يغطون السعودية في همجيّتها ضد المدنيين والنساء والأطفال.

لكن ما صعق الأميركيين هو استهداف الطائرات المسيّرة من دون طيار لخطوط استخراج النفط السعودي من شرقي السعودية عند سواحل الخليج مروراً بالوسط وحتى ينبع عند البحر الأحمر. وهذه خطوط تتجاوز مضيق هرمز وباب المندب بطاقة ستة ملايين برميل يومياً تنقلها من رأس البحر الأحمر عبر قناة السويس الى البحر الأبيض المتوسط.

وبهذه الضربة، أفهم اليمنيون الشجعان السعوديين والأميركيين أن تجاوز المضائق لا يعني نجاحهم بالهرب من الضغطين الإيراني واليمني والاستمرار في وظيفتهم النفطية. وجاء هذا الإعلان صاعقاً ضرب رؤوس السعوديين وجعلهم يستنجدون بتغطياتهم الاميركية والاوروبية مستحضرين وظيفتهم الدينية بادعاء حماية الحرمين الشريفين وبالزعم ان القصف يستهدف مكة المكرمة.

وفيما استعد الاميركيون والسعوديون للتصدي للطائرات اليمنية المسيرة في العمق السعودي والإماراتي باغتهم اليمنيون بمهاجمة اهداف سعودية قرب أعالي صعدة والجوف في جيزان ونجران على مقربة من حدود اليمن.

لقد تسببت هذه القدرة اليمنية في تبديل اهداف القتال بسرعة فائقة بارتباك عميق في صفوف المعتدين.

وتبين لهم ان وظيفتهم النفطية مهددة ومطاراتهم قابلة للتوقف في ابو ظبي وكافة انحاء مملكة آل سعود، وليس لديهم منطقة آمنة وحصينة في كل المناطق الخاضعة لسيطرتهم، كما ان مشروعهم للسيطرة على الحديدة بالوسيلة العسكرية اولاً مني بهزيمة ضخمة وبواسطة الأمم المتحدة، اصيب بدوره بإخفاق كبير.. وها هم اليوم يهاجمون المندوب الأممي الى اليمن غريفيت بذريعة انه منحاز إلى أنصار الله في تفسير اتفاق ستوكهولم السويدي، ويزعمون أن حرس السواحل الذين يتولون ادارة موانئ الحديدة هم من انصار الله، مصرّين على استبدالهم بخفر السواحل من السعودية او الإمارات وربما من «إسرائيل»، علماً ان الوسيط الدولي غريفيت اكد على صدقية انسحاب انصار الله من الموانئ وتسليمها الى القوات الشرعية في المدينة، الا ان السعوديين بالتغطية الاميركية والاسرائيلية المعتادة، وجّهوا الى امين عام الأمم المتحدة رسالة طالبوا فيها بإبعاد غريفيت عن المهمة اليمنية الموكلة اليه.

وما يثير السخرية هو أن تجهل السعودية ان إجرامها في اليمن أصبح مفضوحاً حتى من قبل حلفائها… فها هي فرنسا وإسبانيا والمانيا تمتنع عن بيعها أسلحة بسبب جرائمها اليمنية، الى جانب تيارات اميركية وبريطانية تطالب بمحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم وتغطياتهم الاميركية والاسرائيلية.

لقد نجح اليمنيون في دفع الأمور إلى حافة الهاوية، فإما وقف الحرب على اليمن والتفاوض على قاعدة اتفاق ستوكهولم وفك الحصار عن مطار صنعاء، والموانئ، وإما فإن الوظائف النفطية والاقتصادية للسعودية والإمارات، قد تبقى طويلاً تحت رحمة الطائرات المسيرة والاختراقات اليمنية الحدودية لمملكة آل سعود اليمنية.

لذلك لا ينفك هذا اليمن يثير إعجاب حلفائه في حلف المقاومة وسخط أعدائه في مجموعة الخليج و»إسرائيل» والغرب وسط عجز كامل عن تجاوز معادلات الابداع اليمنية في حروب لم يخسروا حتى واحدة منها على مدى التاريخ… وهم الآن مقبلون على نصر جديد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
د. وفيق إبراهيم