المشهد اليمني الأول/
هكذا يكون توقيف جورج نادر الأسلوب الجديد لدى معارضي ترامب لتعرية مرتكزاته الشرق أوسطية، تمهيداً لإزاحته، ولإعادة خلط الأوراق بين الحلفاء والخصوم في المنطقة، بما يؤمن المصالح الأميركية ويحمي الجنود من خوض حروب جديدة فيها، ويقود ديموقراطياً إلى البيت الأبيض.
ليس عادياً أن تقول رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إنها تفضل سجن الرئيس دونالد ترامب على إقالته. وليس مفاجئاً أن يضاف إلى أثقال ترامب مادةً جديدة من وزن توقيف رجل الأعمال الأميركي (اللبناني الأصل) جورج نادر في مطار نيويورك، خصوصاً إذا عرفنا موقع الرجل ودوره ليس في فريق ترامب فحسب، إنما في العلاقة التي تجمع هذا الأخير بولي عهد الإمارات محمد بن زايد آل نهيان، حيث يعتبر نادر يد بن زايد اليمنى، ومهندس علاقاته مع إدارة الرئيس ترامب، وميسّر مصالحه لدى واشنطن.
يعاني ترامب الأمرّين في تعامله مع قضايا الداخل الأمريكي. الديموقراطيون يحفرون في طريقه نحو تجديد ولاية ثانية في الأبيض. في الواقع هم لا يكتفون بذلك، بل يسعون إلى سجنه ومنعه من إتمام ولايته. لكن ذلك يبقى جزءاً من الصورة فقط. الأجزاء الأخرى المرتبطة بمحاربته في ملف السياسة الخارجية أكثر أهمية بالنسبة إلينا في الشرق الأوسط. فقد وصلت تأزم السياسة الخارجية الأمريكية إلى نقطةٍ خطرة على ترامب ومستقبله السياسي. الرجل لا يتمكن في الوقت الحالي من إتمام أي ملف يفتح. مع إيران تورط في تصعيدٍ حاد، يلهث اليوم لإطفاء ناره التي بانت شراراتها بسرعة في منطقة الخليج. وفي اليمن هو غير قادرٍ على كسب الحرب مع حلفائه، ولا هو قادر على إيقافها. وربما يفسّر هذا التخبط مسألة توقيف يد بن زايد في البيت الأبيض. فقضايا جورج نادر واستغلال الأطفال ليست جديدة. وهي ترجع إلى نهاية الثمانينيات يوم حوكم نادر في قضية نقل مواد جنسية لأطفال هولنديين. فضلاً عن سجنه مدة عام في تشيكيا في قضايا مماثلة. قبل أن يتم توقيفه في العام الماضي في مطار دالاس في القضية نفسها.
وتشير حساسية القضية وارتباطها بانتهاك بواحدٍ من أكثر ملفات حقوق الإنسان التي تلقى اهتماماً في المجتمعات الغربية، إلى أن المسألة أكبر من قضية مستشار له اهتمامات منحرفة، بل يمتد تأثيرها إلى إحراج ترامب وزيادة الضغوط الشعبية والرسمية عليه، لإقالته ومحاكمته، أو على الأقل إيصاله إلى الانتخابات في خريف 2020 منهك القوى، وفاقداً للتأييد الشعبي والحزبي اللازمين لاستمراره في القيادة وفي السياسة بشكٍ عام.
لكن لماذا نادر تحديداً؟ بل لماذا التصويب على ترامب من باب محمد بن زايد تحديداً؟
الجواب يمكن في تفصيل دور هذا الأخير في قضايا المنطقة ودور بلاده فيها، وفي العلاقة بين ترامب والروس. فإن لِبن زايد مكانة مهمة جداً في الشرق الأوسط بالنسبة لترامب. هو أحد أعمدة التحالف الذي يشن الحرب على اليمن منذ سنوات، وهو اختار لنفسه دور رأس الحربة في مواجهة إيران، وفي الدفع باتجاه إشعال الحرب معها. واستهدافه سيؤدي بحسب رؤية الدموقراطيين الأمريكيين إلى تخفيف -إن لم يكن إيقاف- هجوم ترامب على الاتفاق النووي بين إيران والدول الست، خصوصاً وأن إعادة إحياء الاتفاق النووي سيؤدي حتماً فيما لو نجح، إلى تعزيز آمال الديموقراطيين في استعادة البيت الأبيض في الانتخابات المقبلة.
لقد ضاق الديموقراطيون ذرعاً بدور محمد بن زايد ومعه محمد بن سلمان في استغلال إدارة ترامب لأغراض إقليمية مرتبطة بالحكم في السعودية والإمارات ونفوذهما في الشرق الأوسط. هاتين الدولتين تشكلان عمود الأساس في مشروع “صفقة القرن” التي يريد ترامب ركوبها لإنهاء القضية الفلسطينية بالطريقة التي تفيد “إسرائيل” ولوبيات اليهود في الغرب. بالطبع ليس هذا ما يستفز الديموقراطيين، بل تشكيلهما رافعة لسياسات ترامب وصفقاته التي قد تصعب عليهم المعركة الانتخابية.
وهنا يمكن القول إن تحولاً مفصلياً تتكون معطياته رويداً رويداً في العلاقات الأمريكية-الإماراتية. فالمؤسسة الأمريكية التي يعتبر أن ترامب أتى من خارجها، ترفض الدور الموكل للإمارات والسعودية في المنطقة، وتفضّل عليه تأسيس اتفاقيات مستدامة تحافظ على المصالح الأميركية الرسمية، وتحميها من التحول إلى مصالح خاصة بين أشخاص الحكم، كترامب والمحمدين بن زايد وبن سلمان.
وفي هذا السياق، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية تقريراً عن دور بن زايد في واشنطن، حيث اعتبرت أنه قد يكون “أقوى” حكام العالم العربي. مستعرضةً علاقاته بأميركا منذ العام 1991، وحيازته أهم ترسانة عسكرية في المنطقة، وأكبر ثروة لحاكم في العالم، وتأثير ذلك على استقرار المنطقة. وراحت أبعد من ذلك لتقول إن بن زايد واحد من أكثر الشخصيات غير الأميركية المؤثرة في واشنطن، وله دور أساس في تحريض الإدارة الأميركية على تبني نهجه العدواني المتزايد تجاه المنطقة.
ورأت الصحيفة أن بن زايد يلعب اليوم بطريقته الخاصة وليس بحسب المصالح الأمريكية، حيث ينشر قواته الخاصة في اليمن وليبيا والصومال وشمال سيناء في مصر، وساهم في إحباط التحولات الديمقراطية في الشرق الأوسط، ودعم وصول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم في مصر، وعزز من نفوذه في السعودية.
هكذا يكون توقيف جورج نادر الأسلوب الجديد لدى معارضي ترامب لتعرية مرتكزاته الشرق أوسطية، تمهيداً لإزاحته، ولإعادة خلط الأوراق بين الحلفاء والخصوم في المنطقة، بما يؤمن المصالح الأميركية ويحمي الجنود من خوض حروب جديدة فيها، ويقود ديموقراطياً إلى البيت الأبيض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نورالدين إسكندر