المشهد اليمني الأول/
10 رمضان 1440 هـ الموافق 15 مايو 2019م
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِ العالمين، وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ الملكُ الحقُ المبينُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه خاتمُ النبيين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ وباركت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
وارض اللهم بِرضاكَ عن أصحابِه الأخيارِ المُنتجبين وعن سائرِ عِبادِك الصالحين.
أيها الأخوةُ والأخوات، السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته..
وتقبّلَ اللهُ مِنّا ومِنكم الصيامَ والقيامَ وصالحَ الأعمالِ، اللهم اهدنا وتقبل منّا إنكَ أنتَ السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
في الحديثِ على ضَوءِ قولِ اللهِ سبحانه وتعالى في الآية المباركة {وَآتِ ذَا القُربىٰ حَقَّهُ وَالمِسكينَ وَابنَ السَّبيلِ وَلا تُبَذِّر تَبذيرًا}(الإسراء ـ من الآية 26)، تحدَّثنا في مُحاضرةِ الأمسِ عن بعضِ ما يدخلُ في عنوانِ حقِّ ذوي القُربى، وتحدثنا بدايةَ الحديثِ عن الزكاةِ كعنوانٍ أولٍ في الحقوقِ فيما يتعلقُ بالمسكينِ وابنِ السبيل.
الإسلامُ يُربينا في تعليماتِه وفي توجيهاتِه على أن نحمِلَ كمجتمعٍ مسلمٍ رُوحَ الخيرِ والعطاءِ والإحسانِ، والالتزاماتُ الماليةُ ومَا يَلحقُ بها على سبيلِ التطوعِ بابُ خيرٍ عظيمٌ للإنسان، بابُ بركةٍ ومفتاحُ خيرٍ واسعٌ وسبيلُ قُربةٍ إلى اللهِ سبحانه وتعالى، وعندَما يُوجهنا اللهُ في هذه الآيةِ المباركةِ كتوجيهٍ فنجدُ في آياتٍ كثيرةٍ ترغيباً كبيراً، الله جلَّ شأنُه هو الذي يُعطينا، هو خيرُ الرازقين، هو {هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}(الذاريات ـ من الآية 58)، وهو القائل {وَما أَنفَقتُم مِن شَيءٍ فَهُوَ يُخلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيرُ الرّازِقينَ}(سبأ ـ من الآية 39)، الإنسانُ عندما يعُطي عندما يقدِّمُ ويقومُ بواجباتِه والتزاماتِه الماليةِ هو لا يَغرَمُ هو لا يَخسرُ إنّما هو يتقرَّبُ إلى اللهِ سبحانه وتعالى بما يَفتحُ لنفسِه بهِ الخيرَ عندَ اللهِ ويَحصلُ بواسطتِه على الخيرِ الواسعِ من اللهِ سبحانه وتعالى.
إخراجُ الزكاةِ سَببُ خيرٍ وبركةٍ، سَببٌ للبركاتِ وللأمطارِ، وسَببٌ لِسعةِ الرِزقِ ولسلامةِ الأرزاقِ ولتطهيرِ النفوسِ وتزكيتِها.
الصدقاتُ كذلك سبيلُ قُربَةٍ إلى اللهِ، أجرُها عظيمٌ وواسعٌ، وفي الوقتِ نفسِه سببُ خيرٍ لِسعةِ الرزقِ والبركةِ ودَفعِ الكثيرِ من الشرِ عن الإنسانِ، وللحصولِ على الألطافِ الإلهيةِ، وكذلك كلُ أشكالِ الإنفاقِ والعَطاءِ التي هي مُتطابِقةٌ مع توجيهاتِ اللهِ وتعليماتِ اللهِ سبحانه وتعالى، وكلُ أشكالِ التعاونِ على البِرِّ والتقوى وأشكالِ الإحسان.
الإحسانُ عنوانٌ واسعٌ يدخلُ فيه تفاصيلُ كثيرة، فعندما نتجهُ على أساسِ تعليماتِ اللهِ سبحانه وتعالى ففي ذلك الخيرُ لنا، الخيرُ لك أنت عندما تُنفِقُ عندما تُعطي وعندما تتزكى نفسُك وتَحمِلُ نفسيةً سليمةً من الجَشعِ مِن الطمعِ مِن الهَلَعِ من الحِرصِ من الشُحِّ، من تلك الآفاتِ النفسيةِ الخطيرةِ جداً التي تُعذِّبُ الإنسانَ نفسياً في حياتِه ويَشقى بسببِها في حياتِه ولو اِمتلكَ ما اِمتلك، لو امتلكَ خزائنَ “قارون” يبقى في حالةٍ من التوترِ النفسي والانشدادِ النفسي والقلقِ والاضطرابِ النفسي لدرجةِ أنْ يتحولَ المالُ في كثيرٍ من الحالاتِ إلى عذابٍ يُعذِّبُكَ اللهُ به، تجارتُك الكبيرةُ أموالُك الكثيرةُ ثروتُك الكبيرةُ تتحولُ في نفسِها إلى عذابٍ يُعذِّبُكَ اللهُ به، لا تحملُ أيَّ مشاعرَ مِن الاطمئنانِ والسعادةِ بما تمتلكُه من مالٍ، ولا تأنَسُ بما لديك من ثروةٍ، إنما تكونُ في حالِ قلقٍ دائمٍ، قلقٍ وتوترٍ وجشع كيفَ تُنمي هذه الثروةَ، كيف لا تَنقُص، كيف لا تَخسر، كيف لا تَفقِدُ شيئاً منها، كيف لا يتضررُ شيئٌ منها، وهكذا، ويعيشُ البعضُ من أصحابِ الثروةِ والمالِ هذا العذابَ النفسيَ وهذا التوترَ الدائمَ وهذا الاضطرابَ الذي لا يعرفون معهُ السعادةَ ولا يعرفون معهُ الراحةَ ولا يعرفون معه السَكينةَ والاطمئنانَ، ويكونُ لذلك الأثرُ السلبيُ عليهم في واقعِ حياتِهم وهو في المنزلِ عندَ أسرتِه عندَ زوجتِه، وهو في الخارجِ وهو في الداخلِ، وهكذا.
فالعطاءُ هو سبيلُ خَيرٍ للإنسانِ على المستوى النفسي، يُنمي فيك المشاعرَ الإنسانيةَ الطيبةَ وحتى الارتياح النفسي مع العطاء، وفي الوقتِ نفسِه تستفيدُ به قُربَةً إلى اللهِ سبحانه وتعالى كَعملٍ صالحٍ عظيمٍ ومُقرِّبٍ إلى اللهِ سبحانه وتعالى، وتستفيدُ منه فيما وَعدَ اللهُ بهِ وهو لا يُخلِفُ وعدَه في العطاءِ في مُقابِلِ العطاءِ، بأنْ يُخلفَ لك ما أنفقتَ وما قدَّمتَ أضعافاً مُضاعفةً، أضعافاً مُضاعفةً، كم في القرآنِ الكريمِ من آياتٍ تؤكدُ على ذلك.
البعضُ للأسفِ تَغيبُ عنه هذه الروحيةُ، وتنشأُ حالةٌ من الجشعِ ومن الحِرصِ ومن الطمعِ تجعلُ الكثيرَ يَلهثونَ وراءَ ما يجمعونَ فقط، لا يحملُ روحيةَ العطاء، بل يَصِلُ الحالُ ببعضِهم إلى أنْ يُزاحِمَ المساكينَ ويُزاحِمَهُم وهو غنيٌ وهو لا يحتاج، قد يُزاحِمَهُم على أفرانِ الخُبزِ، قد يُزاحِمَهُم على السلَّاتِ الغِذائيةِ التي تأتي من المُنظمات، وهذه حالةٌ تحصلُ، كثيرٌ من الناسِ وهو غنيٌ عن تلك السلَّاتِ الغذائيةِ لَديهِ مَصدرُ رِزقٍ يَفي باحتياجِه الضروري يَفي بِغذائِه وقُوتهِ لا يحتاجُ إلى تلك السلَّاتِ الغذائيةِ فيذهبَ ليُزاحِمَ، يُزاحِمَ أولئك الفقراءَ والمساكينَ والبائسينَ الذين إنْ لمْ يحصلوا على تلك السلَّات الغذائيةِ سيجوعون يُعانون من الجُوع، حالُهُ يختلفُ عن حَالِهم، وهذه الحالةُ من المُزاحَمَةِ للمساكين بدلاً من التعاونِ معهُم والعطاءِ لهم هي حالةُ انحطاطٍ وجشعٍ زائدٍ، جشعٍ فظيعٍ ورهيبٍ جداً يجبُ أن يتنزهَ الإنسانُ مِنه، وهي تَنَّزُلٌ وانحطاطٌ ودَناءةٌ في الإنسانِ عندَما يحرِصُ أن يحصَل على أي شيئٍ بأي شكلٍ من الأشكالِ إلى درجةِ أن يُزاحِمَ المساكين، فالحالةُ هذه سلبيةٌ جدا، فالمطلوبُ هو أن نَحمِلَ الروحَ الخيّرةَ والمَعطاءةَ التي تُبادرُ بتقديمِ العطاءِ تحتَ كلِ العناوين، أن يُخرِجَ الزكاةَ، أن يحرِصَ الإنسانُ على أن يُخرِجَ الصدقةَ، أن يكونَ من المُحسنين، هذا خيرٌ لهُ نفسياً وعندَ اللهِ سبحانه وتعالى، وفي سِعةِ الرزقِ، وفيما يدفعُ اللهُ عنك مِن البلاءِ ومِن الضُرِ ومِن الشرِ، فوائدُ كثيرةٌ جداً تحدَّثت عنها الآيات القرآنية وتحدَّثَ عنها الرسولُ صلواتُ الله عليه وعلى آلِه فيما رُوي عنه.
{وَابنَ السَّبيلِ}، يدخلُ في هذا العنوانِ، طبعاً “ابن السبيل” هو المُنقطِعُ عن بَلَدِهِ عن مِنطقتِه، الإنسانُ عادةً في واقعِ حياتِه يكونُ في بَلدِهِ قد بَنى حياتَه وأسَّسَ حياتَه ونَشاطَه على أساسِ كَسبِ الرزقِ واستقراره، لكن عِندما يكونُ مُنقطِعاً تتأثرُ، تتأثرُ حياتُه في أشياءٍ كثيرةٍ ومِنها في وَضعِه المعيشي يَعيشُ وَضعاً مَعيشياً صعباً، في مِثلِ هذه الحالةِ يُوجِبُ الإسلامُ وأمرَ اللهِ سبحانه وتعالى بالعنايِةِ بابنِ السبيلِ والاهتمامِ به، واليوم النازحون هُم كُثُرٌ مع العدوان، النازحون هُم كُثُرٌ مِن المناطقِ المُحتلَّةِ، وهُم مِن خِيرةِ أبناءِ هذا الشعب، الكثيرُ مِنهُم نَزحوا لأنَّهُ لم تَطِب نفسُه أن يعيشَ خانعاً لِقوى الاحتلال وعُملاءِها فنزَحَ لمْ يَستقِر في بَلدِه أو في مِنطقتِه عندما سَيَطرَ عليها الأعداءُ وعُملاؤهم ومُرتزقتهم وخَونتُهم، ويعيشون ظُروفاً صعبةً، البعضُ في صنعاءَ والبعضُ في مناطقَ أخرى، ولذلك يجبُ الالتفاتُ إليهم سواءً على مُستوى الزكاةِ للمحتاجين مِنهم إلى الزكاة، أو من جانبِ الدولةِ فيما عليها أن تقومَ بِه بحسبِ ما تستطيعُه وتتمكنُ مِنه وبالتفاتةٍ جادةٍ وصادقةٍ وباهتمامٍ اهتمامَ مَن يَحرِصُ على أن يُقدِّمَ كُلَ ما يستطيعُ أن يُقدِّم.
المفترضُ أن يَسعى الجميعُ على المستوى الرسمي من جانبِ الدولةِ، على مستوى التكافلِ المُجتمعي من جانبِ الشعبِ من جانبِ الناس، أن يَحرِصُوا على العنايةِ بهؤلاءِ النازحين سواءً مَن كانوا في مُخيَّماتٍ أو من كانوا في المُدنِ أو القُرى وقد استقروا واستقرتْ حَياتُهم، مِن واجبِ الجميعِ على مُستوى التُجارِ على مُستوى المُزارعين على مستوى كلِ مَن يستطيعُ أن يَستوعِبَ على المستوى العَملي، هذا نوعٌ مُهمٌ من المُساعدَةِ، التشغيلُ، التشغيل لِمَن يستطيعون أن يُشغِّلُوه، هذا نوعٌ مُهمٌ جداً من المُساعدَة، بعضُ التجارِ قد يستطيعُ أن يستوعبَ البعضَ من الفقراءِ البعضَ من النازحين في إطارِ أعمالٍ يَحصلون من خِلالها على مكافآتٍ وتكوُن سبباً للحصولِ على رِزقِهم، البعضُ من الفلَّاحين البعضُ من المُزارعين البعضُ من المُقاولين والشغَّالين في مُختلَفِ الأعمالِ يُمكنُ الاستيعابُ للكثيرِ كَيَدٍ عاملةٍ يُستوعبونَ في أعمالٍ يُستوعبون في أنشطةٍ تكونُ سبباً ومُفتاحاً لِأرزاقِهم ومُساعدتِهم في مَعيشتِهم، وهذا نوعٌ مهمٌ جداً مِن المُساعدَة.
{وَابنَ السَّبيلِ وَلا تُبَذِّر تَبذيرًا * إِنَّ المُبَذِّرينَ كانوا إِخوانَ الشَّياطينِ ۖ وَكانَ الشَّيطانُ لِرَبِّهِ كَفورًا}، نستطيعُ أنْ نقومَ بالتزاماتِنا الماليةِ إذا انطلقنا على أساسِ وعيٍ وفَهمٍ صحيحٍ لماهيةِ مسؤوليتِنا تجاهَ المالِ، ماذا يعني لنا المال؟ إذا كنّا نفهمُ أنَّ المالَ وأن الجانبَ الاقتصاديَ في الإسلامِ أمرٌ مهمٌ جداً تقومُ عليه الحياةُ للأمَّةِ وللناسِ وتقومُ عليهِ أيضاً قوةُ الناسِ.
الجانبُ الاقتصاديُ في الإسلامِ مهمٌ للغايةٍ مهمٌ جداً وليست النظرةُ إليهِ إلى أنَّه لِلترَفِ والعَبثِ وللاستهتارِ والإهدارِ كيفَ مَا كانَ والتصرُفِ العبثي، لا، إنّما نتعاملُ من واقعِ الحكمةِ وعلى أساسٍ من المسؤوليةٍ وعلى أساسٍ من المبادئِ والقِيمِ والأخلاقِ والتشريعاتِ التي وَرَدتْ في هذا الجانب، النظرةُ العامةُ بأصلِها مطلوبٌ أنْ تكونَ نظرةً صحيحةً إلى موضوعِ المالِ وموضوعِ الاقتصادِ كيف هو في الإسلام، لأنَّ للإسلامِ رؤيتَه تجاهَ الموضوعِ الاقتصادي وموضوعِ المالِ والثروةِ، مَا الذي ينبغي أن نُحصِّلَه من وراء ذلك أن نَحصُلَ عليهِ من خلالِ ذلك، ماذا نريدُ بالثروة، ماذا نريدُ بالمال؟ ماذا نريدُ بالاقتصاد؟.
الاقتصادُ في الإسلامِ وسيلةٌ وليس غايةً، الفرقُ بينَ نظرتِنا كَمسلمين ـ مِن خلالِ الرؤيةِ القرآنيةِ من خلالِ الثقافةِ القرآنيةِ من خلالِ التشريعاتِ الإسلاميةِ ـ والنظرةِ الماديةِ عندَ القوى الرأسماليةِ والاشتراكيةِ أنَّ الإسلامَ يَجعلُ من الاقتصادِ وسيلةً وليسَ غايةً، ووسيلةً مُهمةً لتحقيقِ غاياتٍ مُهمة، عِندما نقولُ وسيلةً هذا لا يُقلّلُ مِن أهميتِه في الإسلامِ إنّما هو وسيلةٌ لتحقيقِ غاياتٍ مُهمةٍ، ومَضبوطٌ بتشريعاتٍ وتوجيهاتٍ مِن اللهِ سبحانه وتعالى، هذه الالتزاماتُ الماليةُ التي نُصلِحُ بها واقعَنا المُجتمعيَ ونَبني بها اقتصاداً قوياً يُحقِقُ لنا الاستقلالَ والاكتفاءَ الذاتيَ والقوةَ، وحتى نكونَ أمَّةً مُنتِجَةً وأمَّةً قويةً على المستوى الاقتصادي لا تَعتمدُ في اقتصادِها وفي معيشتِها وفي غذائِها وفي احتياجاتِها الأساسيةِ على أعدائِها، لا بُدَّ أن ننطلقَ من هذا المنظورِ الإسلامي بِعينِ المسؤوليةِ وعلى أساسٍ من المبادئِ والتشريعاتِ الإلهيةِ، عندما نجدُ أنَّ اللهَ جلَّ شأنُه يقول {وَلا تُبَذِّر تَبذيرًا} أي بدلاً من الإهدارِ للمالِ وتَضييعِ نُسبةٍ كبيرةٍ مِن هذا المالِ عليكَ بهذه الالتزاماتِ المُهمةِ التي لها أثرٌ كبيرٌ على المستوى الاجتماعي والأمني والاستقرارِ الداخلي للأمة، والتي ستساعدُ في تماسُكِ هذه الأمةِ في مواجهةِ كلِ التحدياتِ والأخطارِ وتُساعدُها على النهوضِ بمسؤوليتِها، نحنُ أمَّةٌ لديها مسؤولياتٌ كبيرةٌ ولنا أعداءٌ ونُواجِهُ تحدياتٍ وأخطاراً.
{وَلا تُبَذِّر تَبذيرًا} التبذير ما هو؟ التبذير له شكلان:
الشكل الأول: إضاعةُ المالِ في غَيرِ مَنفعةٍ ولا فائدة، هذا شكلٌ من أشكالِ التبذير.
الشكل الثاني: الإنفاقُ للمالِ في ما هو معصيةٌ للهِ سبحانه وتعالى، وهذا شكلٌ آخرُ للتبذير.
تحتَ كلِ شكلٍ هناك عناوينُ وتفاصيلُ وجزئياتٌ كثيرةٌ.
إذا جِئنا إلى العنوانِ الأولِ “الإضاعة”، الإضاعةُ والعَبَثُ والصَرْفُ في غَيرِ مَنفَعةٍ وفي غيرِ فائدةٍ، والاستهلاكُ العبثي، هذا يدخلُ تحتَه تفاصيلُ كثيرةٌ بدءًا من سُفرة الطعامِ التي يَبقى فيها فائضٌ، فائضٌ مُهمٌ من الطعام، نُسبةٌ جيدةٌ من الطعامِ تذهبُ إلى القمامة، إلى المَاءِ الذي نُهدِرُه ونحنُ في أثناءِ الوُضوءِ أو في أثناءِ الغَسلِ لأواني الطعام، أو في أثناءِ الأعمالِ الزراعيةِ، أو في أعمالِ التنظيفِ، في أي أعمالٍ أخرى، إلى كثيرٍ من التفاصيل، إلى الإنفاقِ في المَضارِ، إلى الإنفاقِ في المَضار، الإنفاق في المفاسدِ، لو نأتي لنتأملَ في واقعِ شُعوبِنا الإسلاميةِ كشعوبٍ عندما تُفكر على مستوى الإنفاقِ الشخصي ثمَّ على مستوى الإنفاقِ العام، كم سيطلع من أرقامٍ هائلةٍ جداً.
حالةُ التبذيرِ هي حالةٌ في الواقعِ العربي مُنتشرةٌ، وأكثرُ مِن بَقيةِ الشعوب، الإنسانُ العربي كريمٌ إلى حدِّ كبيرِ وفي الوقتِ نفسِه أكثرَ مِن مسألةِ السخاءِ مُبّذِّرٌ ومُستَهترٌ بالمال، الإنسانُ العربيُ هو الذي كانَ يقولُ فيما حَكى الله عنه يقول {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا}(البلد ـ 6)، كثير، طبعاً هناك أيضاً بُخلاءُ في الواقعِ العربي لكن هناك أيضاً أسخياءُ جداً، وهناك أيضاً رُوحيةُ اللامبالاةِ بالمالِ عند تَوفُرِه أو بالممتلكاتِ والمُقتنيات عندَ توفُرِها، هذه الحالةُ من الاستهتارِ حالةٌ شائعةٌ ومُنتشرةٌ وللأسفِ بشكلٍ كبيرٍ وعلى نحوٍ خطيرٍ يُضيعُ الكثيرَ والكثيرَ من أموالِ الأمةِ ويُهدِرُ الكثير والكثيرَ من إمكاناتِها.
على مستوى الطعام، نبدأ بهذا العنوان، الكثيرُ مِن الناسِ بدءًا مِن المطبخ، تقومُ الزوجةُ تقومُ النساءُ في المطبخِ بتحضيرِ أحياناً كِمياتٍ من الطعامِ بأكبرِ مِن القَدرِ المُحتاجُ إليه، يَبقى مِن الخُبزِ، يبقى من “الإدام”، يبقى نُسَبٌ معينةٌ فتذهب إلى القمامة، بينما هناك الكثيرُ مِن المساكين مِن الجائعين مِن المحتاجين إلى القُرْصِ مِن المحتاجين إلى لُقمَةِ الخُبزِ، وكم هي الكمياتُ في المُدنِ التي تَذهبُ إلى القمامات؟ كمياتٌ هائلةٌ، وكمياتٌ كبيرةٌ من البُيوتِ ومِن المَطاعمِ كمياتٌ كبيرةٌ من الطعامِ من فائِضِ الطعامِ تذهبُ إلى القمامات.
الإنسانُ إذا كانَ حريصاً فيحاول حتى المرأة تكونُ حريصةً وتَزِنَ ما تُعدُّهُ كوجبةٍ بحسبِ القَدرِ المُحتاجِ إليهِ حتى لا يذهبَ الكثيرُ إلى القمامة.
الكثيرُ أيضاً من الأغنياءِ في حَفلاتِهم ومُناسباتِهم الاجتماعيةِ وما يُقيمونه من مَأدُبَاتٍ للطعامِ والضيافةِ يَبقى بَعدَهُم الكثيرُ والكثيرُ فيذهبونَ بهِ إلى القمامة، هذا مِن التبذيرِ المُحرَّمِ شرعاً، يُمكنُ فائضُ الطعامِ هذا ـ وبالذات اذا نُظمتْ عمليةُ الأكلِ والاستهلاكِ للطعامِ إذا كانت منُظَّمَةً ـ يبقى هذا الفائضُ نظيفاً وسليماً ومُنظماً وتستطيعُ أن تُعِدَّهُ وتقدِّمَه للمحتاجين والفقراءِ للجائعين، ما يبقى مِن المطاعمِ كذلك يُمكن أنْ يُنظَّفَ ويُنظَّمَ، حتى عملية الاستهلاكِ للطعامِ إذا كان الإنسانُ في نفْسِهِ مُنظما.
بعضُ الأشياءِ تحتاجُ إلى وعيٍ عامٍ والى ارتقاءٍ حَضاريٍ في الأكلِ والشُربِ والتناولِ للطعامِ، البعضُ يأكلُ من كلِ شيئٍ ويتركُ مَا تبقَّى بعدَهُ مِن الطعامِ في حالةٍ فَوضَويةٍ يستحي أنْ يُقدِّمَه بعدَ ذلك إلى فقيرٍ أو مُحتاجٍ، لكن لو أكَلَ بطريقةٍ مُنظمَةٍ يَستطيعُ أن يستفيدَ مِن ما بقيَ ويُقدَّمَه للفقراءِ وللمحتاجين، مع العنايةِ بالضبطِ للأمورِ مِن البداية، وإذا ضَبطَ الإنسانُ الأمورَ مِن البدايةِ يطلع لك ذلك الذي ذَهبَ كفائضٍ هو لهُ قيمةٌ، له قيمةٌ، إذا كانت الأمورُ مضبوطةً سيبقى ذلكَ الفائضُ فائضاً مالياً في جيبِكَ تستطيعُ أن تتصدقَ مِنهُ، إذا كانت الزوجةُ تُبعثر وتستهلكُ كمياتٍ كبيرةً وتُرهِقُ زوجَها في ما يحتاجُ أن يُقدَّمَهُ أو يُوفِّرَهُ مِن المَصاريف، قد لا يبقى له الكثيرُ من المال، قد يتحملُ المزيدَ من الأعباءِ والدُيون، ويُمثِلَ هذا بالنسبةِ له مُشكلة، لكن اقتصادَها هي واتزانَها في إعدادِ ما تُقدِّمُه من وَجبَاتِ الطعامِ له في نهايةِ الشهرِ فائضٌ ماليٌ بدلاً مِن أنْ يكونَ فائضاً في القمامات، فائضاً مِن الطعامِ في القمامة، يبقى فائضاً مالياً يَستفيدُ مِنه، يستطيعُ أنْ يُساهمَ مِنه في فِعلِ الخير، يُنفِقُ في سبيلِ الله، يُنفِقً للفقراءِ والضعفاءِ والمساكين، يُساهِمُ مع مُحتاجين مِن أُسَرِ الشهداءِ أو جَرْحى أو غيرِهم، وهكذا على مُستوى الجوانبِ الأخرى.
إذا جِئنا إلى التبذيرِ بالماء، الماءُ هو أساسُ الحياةِ، الحاجةُ مُلِحّةٌ جداً إلى الماء، والتبذيرُ في الماءِ مِن أسوأِ أشكالِ التبذيرِ ومِن أكثرِها انتشاراً، في البُيوت يأتي البعضُ يَفتحُ “ماسورةَ” الماءِ “لِتِدْرِب” بأنهى مستوى، ويتركُها لِتِدْرِب تِدْرِب الكثيرَ والكثيرَ، لو جِئنا لِنحسبَ كم الكميةُ التي يَحتاجُ إلى استهلاكِها ممّا قد انسَكبَ من الماءِ ستطلع نُسبةً بسيطةً والباقي يذهبُ، على مستوى ما نستهلكُه في التنظيفِ والزراعةِ بدونِ ترشيدٍ بدونِ تنظيم، يطلع المجموعُ لشعبٍ أو لمدينةٍ أو لقريةٍ مجموعاً كبيراً وهائلاً جداً.
إذا جئنا إلى شكلٍ آخرَ من أشكالِ التبذيرِ وهو التعاملُ العبثيُ مع الآلاتِ والإمكاناتِ والمُعَدّات الذي يُساعِدُ على سُرعةِ تعَطُلِها وإتلافها، وهذا يَحصلُ كثيرا، الكثيرُ مِن الناسِ يتعاملُ مع مُختلَفِ مَا مَعهُ من الأغراضِ والمُعَدَّاتِ بطريقةٍ عبثيةٍ، يُحطِّمُها، أو كذلك يصِلُ إلى مستوى الانتهاءِ مِن الاستفادةِ مِنها قبلَ الوقتِ المُفترَضِ نتيجةَ سُوءِ الاستخدام، سُوءِ الاستخدامِ الذي يُتلِفُ الكثيرَ مِن الأغراضِ ويُقللُ مِن مستوى الاستفادةِ مِنها.
شكلٌ آخرُ شائعٌ جداً مِن أشكالِ التبذير، الإنفاقُ الهائلُ في المَضرَّات، لو نأتي إلى أرقامٍ عامةٍ، كمْ تستهلكُ شعوبُنا العربيةُ من إنفاقٍ على التدخين؟، كمْ تُنفِقُ على التدخينِ وكم تستهلكُ من التدخين؟، التدخينُ الضارُ الذي يُكتب على مُغلَّفاته على أنَّه يُسببُ السرطانَ ويُسببُ تَصَلُّبَ الشرايينِ وأمراضَ القلبِ وكلَ تلك الآفات، الملياراتُ سنوياً، الملياراتُ سنوياً تنُفقُها شعوبُنا العربيةُ على التدخين، ملياراتٌ هائلةٌ جداً، في الوقتِ نفسِه رُبما قد لا تكونُ شعوبُنا قد أنفقتْ لأي قضيةٍ مِن قضاياها المهمةِ ـ ومنها القضيةُ الفلسطينيةُ ـ ما يُساعدُها على أن تكونَ أمةً قوية، برامجُ أو مَسارات أو مشاريع عَملٍ تساعدُها على النهضةِ الاقتصاديةِ وتحقيقِ الاكتفاءِ الذاتي والتصدي لأعدائِها على المستوى الاقتصادي وعلى بقيةِ المستويات، رُبما قد لا تكون أنفقتْ في أي قضيةٍ مُهمةٍ مثلما أنفقَتْ على التدخين، أينَ هو الرُشدُ؟ أينَ هي الحكمةُ، أين هي المسؤوليةُ؟ أينَ هو الاتزانُ في الإنفاق؟ الكثيرُ على المستوى الشخصي لو يَحسِب كمْ أنفقَ سنوياً على التدخين يطلع مبلغ كبير جداً، كيف لو أنفقَ ذلك المبلغَ على الفقراءِ والمساكين، أو فيما يُفيدُه هو وأسرتُه بشكلٍ صحيح، لكن يستهلِكُ أموالاً كثيرةً ويُنفقُ أموالاً كثيرةً فيما هو ضَارٌ ولا ينفعُ أبداً، وحتى أصبحَ لدى كثيرٍ من التُجارِ تَوَجُهٌ نحوَ البَيعِ والشِراءِ في التدخينِ وتوفيرِ الدُخانِ لماذا؟ لأنَّه سِلعةٌ مُرْبِحَةٌ، عليهِ إقبالٌ كبيرٌ وإنفاقٌ هائلٌ جداً مِن الناس، والكثيرُ مِن الناسِ يشترون بأموالٍ باهظةٍ على المستوى السنوي، كارثةٌ هذه، وضَعفٌ في الوعي وغيابٌ للرُشدِ وغيابٌ للحكمةِ، غيابٌ للمسؤوليةِ.
لو نأتي إلى الكثير من الناسِ الذين يُنفقون أموالاً باهظةً في سبيلِ شِراءِ القات بأسعار غالية بأسعار مرتفعة، البعض مثلا تخزينتُه مُكلّفة، تخزينته اليوميةُ يشتري قاتاً من أغلى أنواعِ القات، مِن أكثرِه في السِعر، سعرٍ مُرتفِعٍ جداً، “تخزينةُ” البعضِ في اليومِ الواحدِ قد تكفي لِمعيشةِ أسرة، أسرةٍ فقيرةٍ لشهرٍ كاملٍ، لشهرٍ كامل، قد تكفي لأن تكونَ مُرتَبَاً لأسرةٍ لشهرٍ كامل، أينَ هو الرُشد؟ والإكثارُ من القات، والقاتِ “الضخمِ” والقاتِ الغالي جداً مَعناهُ ذلك القاتُ الذي هو أكثرُ ضَرَراً، يَستهلِكُ كمياتٍ كبيرةً، يَجلِسُ لفترةٍ طويلةٍ يَمضغُ القاتَ، تتأثرُ أعصابُه تتأثرُ نفسيتُه، يتأثرُ في واقعِه العملي والسُلوكي، في مَنزلِه مع أسرتِه، مع الناسِ، إذا كانَ لديهِ مسؤوليةٌ يتأثرُ سَلباً في أدائهِ لمسؤولياتِه، معروفةٌ آثارُ وأضرارُ القات، لماذا لا يَتزِن؟، لماذا لا يشتري بسعرٍ مُعتدِل ويستفيدُ من تلك النُسبةِ الإضافيةِ مِن المالِ فيما هو مُفيدٌ ونافعٌ وصالح؟.
على مستوى المضارِ هناك أشكالٌ كثيرةٌ وعناوينُ كثيرةٌ لا يتسع الوقت للحديث عنها.
أما الإنفاق في معصية الله فلهُ أشكالٌ كبيرةٌ جداً، الآن الدولُ العربيةُ والأنظمةُ العربيةُ تُنفِقُ ملياراتٍ في مَعصيةِ الله، مليارات، لدرجةِ أنَّ النظامَ السُعودي سمَّاه “ترامب” بالبقرةِ الحَلُوب، ويتباهى بأنَّه باتصالٍ واحدٍ يُحصِّلُ خمسَمائةِ مليارِ دولار، باتصالٍ واحد، أليست هذه معصيةٌ لله؟ أليسَ مِن التبذيرِ أنْ تذهبَ ملياراتٌ بل مئاتُ الملياراتِ مِن الأموالِ لصالحِ أمريكا، وكثيرٌ منها لِصالحِ إسرائيل، لأنَّ إسرائيلَ تَحظى بدعمٍ أمريكيٍ غيرِ مَحدودٍ، دعم مفتوحٍ، مفتوح، وذلك الدعمُ مِن أين يأتي؟، ممّا تحصلُ عليه أمريكا مِن أموالِ المسلمين والعرب، ما يَذهبُ إلى أعدائِنا نسبةٌ هائلةٌ جداً مِن المالِ، نسبةٌ كبيرةٌ، وهذا مِن التبذيرِ والمعاصي الكبيرةِ والفظيعةِ والشنيعةِ. مَا يُنفَقُ في قَتلِ الناسِ بغيرِ حَق مِن تمويلِ بعضِ الأنظمةِ الخليجيةِ تُموِّلُ ملياراتٍ تصلُ أحياناً كذلك إلى مئاتِ الملياراتِ لإثارةِ الفِتَنِ، لِقتلِ الناسِ بغيرِ حق، لإثارةِ العَداوةِ والبغضاءِ والفُرقةِ بينَ أبناءِ الأمة، لتمويلِ أنشطةٍ تضليليةٍ تُغذي الفِتن، تصنعُ الفجوةَ بينَ أبناءِ الأمَّة، تنشرُ العِداءَ بينَ الناس، أنشطةٌ تثقيفيةٌ وأنشطةٌ إعلاميةٌ كلُّها تَنفخُ في أبواقِ الشيطان، تَنفخُ في أبواقِ الفِتنةِ في أبواقِ الضلالِ مَا يثيرُ الفُرقةَ بينَ الأمَّة، ومَا ينشرُ حالةً مِن الكراهيةِ والبَغضاءِ بينَ أبناءِ الأمَّة.
وكمْ في أشكالٍ كثيرةٍ جداً الذي يتمُ إنفاقُه مِن كثيرٍ مِن الناسِ في الحَرامِ لصالحِ الحُصولِ على الخَمْر والمُخدِّرَاتِ، والبعضُ كذلك لصالحِ الفَسادِ الأخلاقي والفواحشِ والجَرائم، عناوينُ كثيرةٌ، نسبةٌ كبيرةٌ مِن الأموالِ في واقعِ الأمةِ تذهبُ ـ في هذا التبذيرِ ـ في ما هو حرامٌ أو في ما هو ضياع.
في ما هو ضياعٌ أيضاً على مُستوى الإنفاقِ أو على مُستوى الاستهلاكِ في إطارِ “الحَقِ العام”، الذين لهم أعمالٌ مُرتبطةٌ بتمويلٍ مِن الحقِّ العام، في الدفاعِ، في الأمنِ، في مسؤولياتٍ في الدولة، مسؤولياتٍ عامة، وقد يتساهلُ البعضُ في التعاملِ مع الممتلكاتِ والمُقتنياتِ العامة، سيارةٌ من الحقِ العامِ هي للدولةِ أو هي للأمّة، هي ليست شخصيةً ليست مِلكاً شخصياً، وقد يتعاملُ بكلِ استهتار، قد يستهلِكُ زيادةً على ما لو استهلكَهُ ممّا لو كانَ يدفعُ من جَيبِه، هذا كلُهُ يَدخلُ تحتَ هذه التصرفاتِ اللامسؤولة، واللامُنضبطة والمُنفلِتةِ والبعيدةِ عن الرُشدِ وعن الحِكمةِ وعن المسؤوليةِ وعن الاتزان، {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (الإسراء ـ من 26،27)، لَرُبَما مِن أكبرِ ما يُمكنُ أن يكونَ رادِعاً لكلِ إنسانٍ بَقيَ فيهِ ذرَّةٌ مِن الإيمان، ذرَّةٌ من الإيمان، أن يكونَ رادعِاً لهُ عن التبذيرِ هو هذهِ الآيةُ المباركة، ما الذي نُريدُه أكثرَ من ذلك، الله يقول {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}، إذا كُنتَ من الْمُبَذِّرِينَ معناه أنتَ من إخوانِ الشياطين، أي شيطان، أخو الشيطانِ شيطان، أنتَ تتجهُ في الاتجاهِ نفسِه الذي كانَ عليهِ الشيطانُ من الكُفرِ لنعمِ اللهِ، مِن عَدَمِ التقديرِ لِنعمِ اللِه سبحانه وتعالى، الحالةُ الإيمانيةُ الصحيحةُ أن يُقدِّرَ الإنسانُ نِعمَ اللهِ، أن ينظُرَ إلى ما بيدِهِ مِن مَالٍ أو إمكاناتٍ أو قُدراتٍ إلى أنها نِعمة، نِعمةٌ مِن اللهِ سبحانه وتعالى، عليهِ أنْ يُقدِّرَها وأن يَشكُرَ اللهَ عليها، وأن يتعاملَ مَعها وفيها بمسؤوليةٍ، بمسؤوليةٍ، لا يستخدمُها في مَعصيةٍ، لا يُهدِرُها في غيرِ مَنفعةٍ، لا يُنفِقُها في مَضرّةٍ أو مَفسدةٍ، هذه هي الحالةُ الإيمانيةُ الصحيحةُ والراشدةُ والحكيمةُ والمُتزِنةُ في التعاملِ مع المالِ، أما حالةُ السَفاهةِ وحالةُ العشوائيةِ والحماقةِ وانعدامِ الحِكمةِ وانعدامِ الرُشدِ والتوازنِ هي التصرُفُ العبثيُ اللامُنضبطٍ واللامسؤول.
{وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} مشكلةُ الشيطانِ أنَّه لمْ يُقدِّر النِعمةَ، كفورٌ، كفورٌ بنعمةِ اللهِ سبحانه وتعالى، هذه مشكلةُ الشيطان، والإنسانُ الذي يتجهُ هذا الاتجاهَ يتحولُ في نهايةِ المَطافِ إلى شيطانٍ لا يُقدِّرُ نِعمَ اللهِ سبحانه وتعالى، في ما أعطاهُ اللهُ على المستوى المَعنوي، على المستوى المادي، أي قُدرَاتٍ أعطاكَ اللهُ هي نِعمةٌ، قُدراتٌ مَاديةٌ أو قدراتٌ مَعنوية، إذا مَنَحكَ اللهُ الذكاءَ فهو نِعمةٌ، لا تستخدِمْ ذكائَكَ في مَعصيةِ الله، إذا مَنحَكَ اللهُ البيانَ وحُسْنَ التعبيرِ والقدرةَ على إتقانِ الحديثِ لا تستخدمْ لِسانكَ في مَعصيةِ الله سبحانه وتعالى وتعبيَركَ في الأعمالِ السيئةِ والأعمالِ التي هي مَعصية، الشكرُ لِنعمةِ اللهِ سبحانه وتعالى هو أكبرُ عنوانٍ للاستقامةِ والاتجاهِ الصحيح في هذه الحياة، الإنسانُ في نهايةِ المَطافِ إمّا أن يكونَ شكوراً وإمّا أن يكونَ كفوراً تجاهَ نعمةِ اللهِ سبحانه وتعالى.
والقرآنُ هكذا يُربينا أن يكونَ لكلِ الأشياءِ في أيدينا قيمةٌ، أهميةٌ، الإمكاناتُ، القدراتُ، في المحافظةِ عليها، في حُسنِ الاستخدام.
الحالةُ الأخرى الحالةُ العبثيةُ هي حالةُ استنزافٍ كبير، استنزافٍ كبيرٍ حتى في الأعمال، الأعمالِ ذاتِ الأهميةِ على المستوى الديني وفي نِطاقِ المسؤولية، ما بِيدكَ من إمكاناتٍ أو قُدراتٍ للحقِ العامِ عليك أن تَحرِصَ فيها على حُسنِ الاستخدامِ، فسُوءُ الاستخدام، الإضاعةُ للأشياء، الإتلافُ للأشياء، التصرفُ العبثيُ واللامبالاةُ بالأشياء تَتلفُ تَضيعُ تُسرَق، هذا تعاملٌ لا مسؤول، وهذا مِن الكُفرِ بالنعمةِ، الإنسانُ الذي عَندَه فَهمٌ صحيحٌ وتقديرٌ للِنعمِ سيحافِظُ على الأشياء في حُسنِ الاستخدامِ لها، في الصيانةِ لها، في المُحافظةِ عليها من أسبابِ الضياعِ ومن أسبابِ التلف، ومن أسبابِ التلف.
طبعاً هناك معاناةٌ كبيرةٌ في هذا الجانب، خاصةً في ما يتعلقُ بنطاقِ العملِ والمسؤولية، اليوم الأخوةُ المجاهدون والأخوةُ في الجبهاتِ والأخوةُ الذين بأيديهم إمكاناتٌ وقدراتٌ عامةٌ، سيارات ممتلكات عامة، هي ليست شخصيةً، هي ضِمنَ الحقِ العام، للدفاعِ عن الأمة، للتصدي لأعداءِ الأمة، عليهم أن يَتحلّوا بالمسؤوليةِ في حُسنِ التصرُفِ وفي حُسنِ الاستخدام، وفي الحَذرِ أيضاً مِن التبذير، البعضُ مِن الناسِ عِندما لا يكونُ إنفاقُه مِن حَقِه الشخصي وبِكدِّ عَرقِه وإنّما هو ضمنَ حقٍ عام لا يُبالي، يتعامل باستهتارٍ وبتبذيرٍ وبإهمالٍ وبسوءِ استخدامٍ وبإتلافٍ وبإضاعةٍ للأشياء، ولا يكونُ للأشياءِ عندَه قيمة، لماذا؟، لأنَّه لم يَحصُلْ على ذلك الشيء من كَدِّ عَرقِه لأنَّه لم يَكدَّ سنيناً ويشتغلْ من الصباحِ إلى المساءِ حتى تتوفرَ له قيمةُ سيارة، وعندما حَصلَ عليها بعدَ سنواتٍ من الجُهدِ والعَناءِ وكدٍّ وجهدٍ وعَرَقٍ وعَناء حافظَ عليها، لا، حَصلَ عليها بكلِ بساطةٍ ضمنَ مسؤوليةٍ عمليةٍ معينةٍ فكان مُستهتراً ولا يُبالي صَدَمَ بِها، أتلَفها، يتصرفُ بشكلٍ سلبي، لا يصونُها، لا يحافظُ عليها إلى آخرِه.
فمسألةُ التبذيرِ مسألةٌ خطيرةٌ جداً، وهي مِن الظواهرِ السلبيةِ المُنتشرةِ التي ينبغي العملُ على مُعالَجتِها، ويَجبُ التحلي بالمسؤوليةِ واكتسابِ الوعي لِحُسنِ التصرُف.
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا}(الإسراء ـ 28)، {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ}، عن ذوي القربى أو عن المساكين أو عن ابن السبيل {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا}، لهذا أيضاً، لهذا العنوان {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا}، لهذه الجملةِ عناوينُ متعددةٌ منها، عندما لا تمتلكُ شيئاً تُقدِّمهُ لهم، عندما تكونُ ظُروفُك أنتَ صعبةٌ ولا تمتلكُ ما تُقدِّمهُ لهم فهنا أقلُّ الأحوالِ أن تتخاطبَ معَهم بالقولِ المَيسورِ القولِ الطيّبِ الكلامِ الميسورِ الذي تُبدي فيه التعاطفَ مَعهم وتأملُ إنْ شاءَ اللهُ عندما تتحسنُ ظروفُك ألا تنساهم فأقلُّ الأحوالِ هو هذا، مثلاً البعضُ قد ينفعلُ إذا أتى إليه من يَشكي لهُ همَّه أو يُحاولُ أن يَطلُبَ منهُ أن يتعاونُ مَعهُ وهو ظُروفهُ صعبةٌ قد ينفعلُ في تلك الحالةِ ويتكلمُ بكلامٍ قاسٍ: “رِحلك يا أخي احنا حاينين في نفوسِنا وعادك جاي تِشغلنا مِن هناك ما عاد دِرينا ايش نسوي لنفوسِنا” أو شيء من هذا التعبير من هذا القبيل، لا، الإنسانُ في الحالةِ التي لا يمتلكُ فيها ما يُقدِّمُه من مساعدةٍ ماديةٍ يُقدِّم الكلمةَ الطيبةَ الكلمةَ التي تُعززُ الأملَ في فَضلِ اللهِ وفي رَحمتِهِ في الخيرِ مِنهُ “وإنْ شاءَ اللهُ تتيسرُ أمورُنا وأمورُكم وإنْ شاءَ اللهُ يُهيئُ اللهُ الأمورَ ولنْ نَنساكم”، وهكذا بالكلمةِ الطيبة، هذا جانب.
الجانبُ الآخرُ في الحالةِ التي يَرى الإنسانُ فيها أنَّ التعاونَ ليسَ في مَحلِّه، مثلاً فقيرٌ هو فقيرٌ لكن يُريدُ أن يَحصُلَ على المزيدِ من المبالغِ لماذا؟ هل لِلقمةِ العَيش؟ لا، مِخزّن “تِلفه” على قولتِنا، يُريدُ أموالاً كثيرةً ليحصلَ على كمياتٍ كبيرةٍ من القاتِ يستهلكُها وأنت مُتأكدٌ مِن هذا قد تعاونتَ معهُ أو تعاونَ معهُ الآخرون لِلُقمةِ عَيشِهِ في الشيئِ الضروري وهو يُريدُ خارجَ الجانبِ الضروري، ففي مِثلِ هذهِ الحالةِ قد تَرى أنهُ ليسَ مِن المُناسِبِ أنْ تُعينَهُ، أو لأشياءٍ قد يكونُ فيها مَعصيةٌ، قد يكونُ إذا أعنتَهُ أعنتَهُ على معصيةٍ، فأنتَ لا تُعرِضُ عنهُ هنا بُخلاً ولا تُعرِضُ عنهُ على أساسِ أن لا تتعاون مَعه، إنّما بدافعِ المسئوليةِ، بدافع المسؤولية، فتكلمْ معهُ بكلامٍ فيه نُصحٌ أو كلامٌ طيبٌ بدلاً عن الجَفاءِ وجَرْحِ المَشاعر {فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا}.
نكتفي بهذا المقدار، ونسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يُوفقَنا وإياكم لما يُرضيهِ عنّا، وأن يرحمَ شهدائَنا الأبرارَ، وأن يشفيَ جَرحانا، ويُفرِّج عن أسْرَانا، ةينصرَنا بنصرِه، إنه سميعُ الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه