المشهد اليمني الأول/
إن المطامع الاستعمارية الغربية في الدول العربية لم تنته، فبعد أن كانت أوروبا تمثلها، دخلت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل بارز على خط تلك المطامع.
بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وما شهده الوطن العربي من حالة تمزيق واحتلال مباشر لبعض أجزائه من قبل الدول الغربية تغيرت استراتيجية تلك المطامع عن طريق تفجير الداخل العربي وتمزيق الشعب في دوله.
إذا ما استعرضنا ما جرى ويجري في ليبيا يمكن تأكيد هذه الحقيقة، فليبيا تشكل الجسر الحقيقي بين مشرق الوطن العربي ومغربه إذا ما اعتبرنا أن مصر ميالة إلى المشرق العربي نظراً للعلاقات التي تربطها به، لذلك يجري التركيز على هذه الدولة في محاولة لتقسيمها وخلق الحواجز ما بين مشرق الوطن العربي ومغربه.
من هنا، يمكن إدراك مفردات الأزمة الليبية التي لم يكن للشعب الليبي أي قرار فيها.
إذاً، ماذا يجري في ليبيا؟
ظلت ليبيا منذ استقلاها بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1951 مسرحاً للتدخل الغربي السلبي، وبقيت عنواناً مهماً في استراتيجيات الدول الغربية نظراً لموقعها القريب من الدول الأوروبية التي لا يفصلها عنها سوى عرض البحر الأبيض المتوسط.
ومع الاكتشافات النفطية الكبيرة في ليبيا ومحيطها الإقليمي ازدادت هذه الأهمية بما أضافته قيمة هذه الثروات النفطية والغازية الليبية، فنفط ليبيا خال من الكبريت تقريباً، كما أنه سطحي لا يحتاج حفراً عميقاً لاستخراجه وهو متقارب المنابع، ما يجعل تكلفة استخراجه سهلة وقليلة التكاليف على نحو عام مقارنة بمثيله في الخليج العربي ومناطق أخرى من العالم، وقد زاد من تركيز الغرب على ليبيا سياسات رئيسها الراحل معمر القذافي المقلقة للقوى الغربية.
وقد أدت الموجة الأولى من الأحداث في ليبيا التي سميّت بـ «الربيع العربي» إلى الإطاحة بالقذافي بدعم غربي تمثل في قصف جوي تولته الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تحت مظلة حلف شمال الأطلسي «ناتو» بحجة حماية المدنيين، فعاد الدور الغربي للبروز في ليبيا والاهتمام المباشر بها بعد سنوات من التدخل غير المباشر، وكانت ملفات الهجرة غير النظامية ومحاربة الجماعات الموصوفة بالإرهاب – والتي تتخذ من الساحل الليبي والصحراء الليبية مسرحاً لنشاطها – روافع جديدة للتدخل الغربي في ليبيا والذي تحول من ملف اقتصادي وجيوسياسي إلى ملف أمني ضاغط يومياً على أجندات الدول الغربية التي اتخذتها حجة للتدخل مرة أخرى في ليبيا.
ومع هذه الأهمية التي تزداد يوماً بعد يوم، يمكن القول إن القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة تركت ليبيا لمصيرها بعد الإطاحة بالقذافي، بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك إلى القول إن القوى الغربية شجعت – بالتغاضي أو الإيهام بالقبول – على العبث بأمن ليبيا واستقرارها، وإدخالها في مغامرات سياسية لا يتحملها النسيج الاجتماعي ولا التربة السياسية والعسكرية التي أعقبت الإطاحة بالقذافي، ما دفع إلى التساؤل عن وجود استراتيجية أمريكية أو غربية في ليبيا، وما معالمها، ومن المسؤول عن تنفيذها.
وعند البحث عن ملامح الاستراتيجية الأمريكية في ليبيا، يمكن لأي مراقب للأحداث أن يلمس بوضوح ما سماه أستاذ العلوم السياسية الليبي الدكتور يوسف صواني «القيادة من المقعد الخلفي» فقد اختارت واشنطن أن يكون تدخلها تحت غطاء حلف «ناتو» وبعد قرار من مجلس الأمن الدولي.
ويمكن القول: إن الولايات المتحدة لم ترسم هدفاً يتعلق باستقرار ليبيا أو قيام دولة ذات خصائص معينة، بقدر ما وضعت مجموعة من المحاذير تتعلق أساساً بثلاثة ملفات رئيسة هي:
أولاً: ضمان تدفق النفط وفق مسارات السوق الدولية، بما لا يمكّن من تسربه إلى كيانات تصنفها واشنطن «معادية» مثل كوريا الديمقراطية، وهو ما يعكسه تدخل بارجة أمريكية لاحتجاز سفينة تحمل علم كوريا الديمقراطية حاولت نقل شحنة نفط في آذار عام 2014.
ثانياً: عدم تحول ليبيا إلى مركز جذب وتسليح وتمويل للتنظيمات التي تضعها واشنطن على قوائم الإرهاب.
ثالثاً: مساعدة حلفاء واشنطن الأوروبيين وخاصة إيطاليا بشأن المخاوف من تدفق المهاجرين.
ومع أن هذه المكونات أو المحاذير الاستراتيجية تنتمي إلى سياسة الرئيس «الديمقراطي» السابق باراك أوباما واستراتيجيته في التعامل مع المنطقة، فإنها لم تتغير بل ازدادت وضوحاً في عهد رئاسة خلفه «الجمهوري» دونالد ترامب الذي ادّعى أن ليبيا خرجت من سلم أولوياته مركزاً على منطقة الخليج وإيران.. وهذا يناقض ما يجري على الأراضي الليبية التي تحاول الولايات المتحدة والدول الغربية إطالة أزمتها بغية تقاسم ثروات هذا البلد.
عن «مركز الدراسات الاستراتيجية»