المشهد اليمني الأول/
بدأت ولن تتوقف، تكنس وتمحق صور النظام القديم كافة، ترفض المهادنة أو التراجع، ولا ترضى بالمسكنات ومناورات الحكام، تتحرك تحت ضوء وعي شعبي، وبتنظيم نادر الوجود في عالمنا العربي، ترى التحديات وتمنح العقبات قدرها، فلا هي تقبل الدنية في وطنها، وتسير إلى طريق سيحقق لها مجتمعًا نزيهًا، يقوده من يحكم لصالح أمته وبلده، تعلمت من ربيع عربي أورث معظم دولنا الخراب، ولا ترغب في إعادة إنتاجه، باختصار فإن الثورة السودانية على البشير أثبتت قدرة الشعوب العربية على مواجهة تحدياتها، وتحقيق انتقالها إلى عهد جديد.
صورة الجماهير السودانية في الشوارع، والتي ترفض انقلابات القصور على جثث أبنائها، رغم التضحيات الجسام، وضعت عصابة الحكم في موقف حرج، فالتضحية بـ”البشير” لم تجد نفعًا، وقيادات الجيش التي اختارها ورباها البشير خلال 30 سنة في الحكم، تريد الخروج بأقل الخسائر، ربما تلح عليهم صورة الحالة المصرية، محاكمة هزلية على سرير مثل “مبارك”، إلى أن وصل لمرتبة شاهد في أحداث قتل الثوار، بعد أن هدأت العاصفة، وتمكن نظامه من تجاوز الإعصار.
كان لافتًا أن تجمع المهنيين السودانيين، الذي يقود الانتفاضة ضد حكم “البشير”، رفض بيان الجيش السوداني، بتعيين مجلس عسكري يحكم لمدة عامين، وعدم مساسه بأركان حكم البشير في السودان، وقبلها عدم تعهده بإخراج السودان من تحالف العدوان في اليمن، والتي تحصد حربها المستمر للعام الخامس زهرة شباب السودان، مقابل بعض الفتات للطبقة الحاكمة.
بيان الجيش السوداني جاء استنساخًا لنظيره المصري، مجلس حكم انتقالي عسكري، يحكم بلا دستور وبصلاحيات مطلقة، كخطوة أولى تجاه تصفية الانتفاضة، وهو عينه ما حدث في مصر، مع ثورة يناير 2011، والتي انتهت إلى وضع أسوأ بمراحل من حكم “مبارك”.
التجمع الذي سبق وقدم للجيش مذكرة يدعوه فيها إلى تحمل مسؤولياته، والمساعدة في إنهاء حكم البشير، رفض الحكم العسكري، أو وصاية الجيش على الشعب، وتمسك بمجلس انتقالي مدني، يساعد في تجاوز مرحلة انتقالية، تفضي إلى نظام جديد، يعبر عن الشارع السوداني، وتكون بوصلته المواطن أولا، ويلملم البلد الممزق، عقب 3 عقود من حكم قادها لخراب مكثف وعميق.
الحيلة التي انطلت على المصريين لم تجد نفعًا مع الأشقاء في السودان، واستفاد من خروج عاصف تبع سوء الأحوال الاقتصادية وترديها، وعجز النظام عن توفير ضرورات الحياة اليومية لعموم الناس، وترجمت قيادات التجمع الموقف الشعبي إلى نقاط واضحة، تهدف أول ما تهدف إلى عبور المحنة، ومن ثم، التأسيس لجمهورية ثانية، مستفيدًا من فشل أغلب الانتفاضات العربية أو نجاح الغرب في توجيهها وركوبها.
الاقتصاد كان فصل الختام في قصة ديكتاتور السودان، رغم مآسي فترة حكمه الطويلة الثقيلة، والوضع الاقتصادي كان دافع خروج آلاف المواطنين للشوارع، بعد عجزهم عن تلبية مطالب آسرهم، في ظل كذب كل وعود البشير وحكومته عن رخاء قادم بعد رفع العقوبات الغربية التجارية والاقتصادية والمالية على السودان، في تشرين الأول/أكتوبر 2017.
وتلا رفع العقوبات الأميركية نشاطًا غير مسبوق للأموال الخليجية، من بوابة الاستثمار الزراعي في السودان، وهي استثمارات تؤول عوائدها إلى المستثمرين أولًا والأسواق الخليجية ثانيًا، ولا يجني منها المواطن السوداني العادي إلا استنزاف الموارد المستمر والمتسارع، ثم جاءت الطامة مع دخول صندوق النقد الدولي إلى الخرطوم، وبدء لقاءات واجتماعات بين النظام السوداني ومسؤوليه، لمناقشة ما وصف بإنه: “جني ثمار إعادة دمج الاقتصاد السوداني في السوق العالمية”، وعلى خطى مصر والأردن والمغرب، كانت الثمار علقمًا، واستفاد الأغنياء بصورة غير مسبوقة من التدفقات المالية، بينما يعاني غالبية الشعب من نير الحاجة، حتى الحاجات الإنسانية الأساسية بات الحصول عليها في الخرطوم عسير المنال.
الشعب السوداني لحق أخيرًا بموجة الربيع العربي، استفاد من مآلات الأحوال في مصر وغيرها، مصممًا على تغيير كامل وجذري، ومن حقه المراهنة عليه من كل القلوب العربية، التي تتوق إلى غد أفضل، ولأنظمة حكم تراعي الفصل بين السلطات الثلاث، وتعلي من قيم الحرية والمساواة والعدل، وتؤسس لمرحلة انتقالية تفضي إلى انتخابات حرة نزيهة، وتنتج قيادات قادرة على خوض التحديات الهائلة التي ينتظرها مستقبل السودان.
(أحمد فؤاد – كاتب عربي مصري)