المشهد اليمني الأول/ تقرير – علي فواز
تشعر أمريكا بالخطر مما تقوم به الصين. مردّ ذلك ليس إلى تصدرها دول العالم في الصادرات بما يقدر بـ2.4 تريليون دولار وفق أرقام العام 2017 ولا في اعتلال الميزان التجاري بين القطبين لصالح بكين، بل إلى خططها السرية ومشاريعها الطموحة. في حال عدم تمكن واشنطن من إعاقتها فإن القطار الصيني السريع سيدهس في طريقه التفوّق الأميركي والغربي. الدكتور كامل وزنة الخبير في الشؤون الاقتصادية والسياسية يشرح ذلك ضمن ملف “عالم مضطرب”.
منذ بداية عهده افتعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب مشكلة مع الصين. السبب المُعلَن وراء ذلك يختلف عن السبب المُضمَر والحقيقي. لطالما كان هناك عجز كبير في الميزان التجاري بين بكين وواشنطن لصالح الأولى. واقعاً استفادت الولايات المتحدة على مدى سنواتٍ مديدةٍ من الصعود الصيني. خدم ذلك مصالحها الاقتصادية فانتقلت مصانعها إلى الصين. أمكن ذلك إنتاج بضائع بطريقةٍ أسرع وتحقيق وفرة من خلال الكلفة الزهيدة لليد العاملة الصينية. في السنوات الأخيرة بدأت الأمور تأخذ منحى مختلفاً. شعرت أميركا بالخطر من قطار الصين السريع.. قطار لم يعد بالإمكان وقفه.
التوجّه لمُلاقاة الخطر الآتي من الشرق بدأ في عهد باراك أوباما. لم تعد الصين تُنافس اقتصادياً عبر إنتاج البضائع الرخيصة فقط. مع الرؤية الصينية الجديدة بدأت ملامح عالم جديد ترتسم في الأفق. عالم لا مكان فيه للاحتكار الأميركي والغربي في ما يتعلّق بالصناعات النوعية. أكثر من ذلك، التكنولوجيا والتفوّق في الغرب باتا مرشّحين للانتقال إلى الشرق. هنا مصدر الخطر الحقيقي. نتحدّث عن الذكاء الاصطناعي وصناعة الروبوتات والاتصالات والأنترنت وشبكات الـG5 إضافة إلى صناعاتٍ أخرى مُتقدمة يحتكرها الغرب.
150 مليار دولار خصّصتها الصين للإنفاق على الصناعات التكنولوجية والإبداع والذكاء الاصطناعي ضمن رؤية 2025. من شأن المدن الذكية التي تعتزم إنشاءها أن تغيّر تركيبة العالم. أصاب هذا الأمر أميركا بالرُعب. هذا التوجّه الصيني بدأ التمهيد له حكومياً من خلال الإنفاق على مراكز الأبحاث والتعليم وإقرار مشاريع ضخمة ودعم الشركات. عَلِمَ ترامب منذ مجيئه أنه إذا لم يحصل كباش مع الصين فإنها ستتفوّق على بلاده.
اليوم تُعدّ الصين أول دولة مُصدِّرة في العالم بقيمة صادرات تُقدَّر بنحو 2.4 ترليون دولار وفق أرقام العام 2017. في مكان آخر أصبحت الصين ثاني أكبر دولة في العالم بالإنفاق العسكري. هذا الأمر له انعكاساته في بحر الصين الجنوبي حيث تقلّصت الثقة الأميركية في التفوّق هناك. واقع الأمر باتت الإمكانات الأميركية مُطوّقة بأنظمةٍ دفاعيةٍ وجزرٍ اصطناعية وقُدرات تقنية عسكرية عالية.
بالمقابل أميركا دولة الاقتصاد الأول في العالم هي الدولة الأعلى مديونية. منذ 2008 وإلى اليوم زادت هذه المديونية 11 ترليون دولار وباتت بحدود 22 تريليون دولار. هذا الرقم غير صحّي ولا يدعم الاقتصاد، وربما يؤدّي كما قالت رئيسة البنك الفدرالي الأميركي السابقة، إلى انهيارٍ اقتصادي جديد.
حرب الأدمغة
يتمحور مستقبل الاتصالات والمدن الذكية في العالم حول الـ5 G. هذا الأمر سيكون له تأثير على العمالة بشكلٍ مباشر. بسبب هذا التغيير التكنولوجي وغيره سيفقد نحو 800 مليون عامل في العالم وظائفهم بحدود عام 2030. تقود شركة هواوي الصينية مشروع إنشاء البنى التحتية لشبكات الـ5G حول العالم. مشروع تُقدَّر قيمته بما بين 12 إلى 13 تريليون دولار حتى عام 2035. على هذه الخلفيّة يمكن فَهْم إصدار وزارة العدل الأميركية أمراً باعتقال إبنة صاحب هواوي ومديرتها التنفيذية. هي رسالة تهديد أميركية أُريدَ منها القول إننا قادرون على اتخاذ إجراءات موجِعة.
اليوم تُستكمَل المفاوضات التجارية بين القطبين في ظلّ اتهامات أميركية واضحة للصين بأنها تسرق التكنولوجيا الأميركية. عبَّر عن ذلك صراحة مستشار الرئيس الأميركي للشؤون التجارية بيتر نافارو. قبل نافارو، لطالما عبَّر مسؤولون أميركيون عن قيام الصين بالاستيلاء على التقنيات الأميركية عن طريق القرصنة أو التجسّس وصناعة نماذج صينية منها.
تدور اليوم حرب تقنية حقيقية بين البلدين. حرب الأدمغة بينهما تتصاعد. تبحث الصين عن علماء وباحثين وهي مستعدّة لمواجهة هذا العالم. بموازاة ذلك تستمر في بناء منظومات مالية جديدة وبنوك للاستثمار في البنى التحتية وهي آخذة في التوسّع في شرق آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ومناطق أخرى.
تحتاج بكين إلى أمرين: تحويل شعبها إلى مُستهلكٍ وهذا ليس بالأمر اليسير، وإنشاء بنية تحتية في أفريقيا وأميركا اللاتينية وغيرها. في أميركا الجنوبية، القارة التي تعتبرها واشنطن حديقتها الخلفية، يمنع “شرطي العالم” أية دولة أخرى من الدخول إليها بموجب “عقيدة مونرو” التي أقرِّت عام 1823.
بالمقابل تزخر القارة السمراء بالموارد الأساسية وهي مركز استهلاك هام للصين التي تحتاج إلى أسواقٍ استهلاكيةٍ لتزخيم عجلات مصانعها.
20 في المئة من الصادرات الصينية تذهب اليوم إلى الولايات المتحدة. جزء من الخطة الصينية الأوسع هو تقليص الاعتماد على الأسواق الأميركية. في المقابل يعتمد الأميركي على المُنتجات الصينية كون البديل عنها يُسبِّب تضخماً في اقتصاده ويخفِّف من القيمة الشرائية لديه. واقعاً أن الصين توفّر للمُستهلك الأميركي المُنتَج بنفس الجودة والقوّة والفاعلية لكن بكلفة أقل مُقارنة مع غيره من المنتجات.
صعود التنين
صعود الصين وصولاً إلى منافسة أميركا له جذور تاريخية. بدأت النهضة الصينية منذ العام 1979 عندما خرجت من الشيوعية كإطارٍ فكري اقتصادي أوحد واتجهت نحو الاقتصاد المُختلط الذي يُزاوِج بين الشيوعية والرأسمالية.
العولَمة في مكانٍ معيّنٍ فتحت آفاقاً لها. دعمتها الولايات المتحدة في البداية إلى أن اكتشفت أن ما بنته منذ أربعينات القرن الماضي بات يشهد تحوّلات.
بعد الحرب العالمية الثانية دخل العالم في منظومةٍ اقتصاديةٍ جديدة. بَنَت الدول المُنتصرة وعلى رأسها أميركا في “بريتون وودز” هذه المنظومة وحكَمت العالم اقتصادياً من خلالها. بموجبها سيطرت دول لا تمثل سوى 12% من سكان العالم على 60-70% من اقتصاد العالم. هيمنت من خلال المؤسّسات والأدوات والأنظمة الاقتصادية والمالية على معظم الصناعة والتجارة وحتى الموارد الطبيعية الموجودة. أية دولة عارضت هذا التوجّه كانت تجد نفسها غارِقة في محاولاتٍ انقلابات. حدث ذلك في إيران عام 1953 حينما أشرفت المخابرات الأميركية والبريطانية على تنفيذ الانقلاب ضد حكومة محمّد مصدق. كان الهدف إبقاء الموارد الطبيعية الإيرانية بيد الولايات المتحدة وحلفائها.
ما زالت الولايات المتحدة اليوم تتحكَّم بأدواتٍ اقتصاديةٍ هامة. لكنّ دونالد ترامب لا يعرف حدود اللعبة الكبيرة التي قد تضرّ باقتصاده. التوسّع بفرض العقوبات الاقتصادية كأداةٍ للسيطرة وإخضاع الدول سوف يُعجِّل بقيام منظومة مالية اقتصادية خارج المنظومة التي وضعتها الولايات المتحدة عام 1944 في “بريتون وودز”.
الانعكاسات السلبية للعقوبات
هناك ترابُط بين اقتصادات العالم اليوم. بالنهاية هو اقتصاد مُعولَم. ما يحدث في الاقتصاد الكبير ينسحب على الاقتصاديات الأخرى. الخطوات التي يقوم بها ترامب أو أي رئيس أميركي تنعكس على المؤشّرات الاقتصادية وأسواق المال في أوروبا والصين والشرق الأوسط. إذا تضرَّرت أميركا سوف يتضرَّر العالم.
اليوم ليست فنزويلا ولا كوريا الشمالية ولا إيران مَن يطالب فقط بمنظومةٍ ماليةٍ جديدةٍ. حلفاء أميركا في أوروبا بدأوا يطالبون بذلك. الأسلوب “العنتري” الذي تمارسه واشنطن في أكثر من مكان يعدّونه غير مدروس. معظم الاقتصاديين في أميركا يعتقدون أن حرب العقوبات قد تكون لها انعكاسات سلبية. حتى الحمائية التي يحاول ترامب فرضها تضرّ بالمنافسة وبالتفوّق الأميركي.
في الولايات المتحدة هناك مدرستان في هذا الإطار. الرئيس السابق رونالد ريغان استجاب يوماً لطلب شركات السيارات الأميركية وفرض حماية ضد الشركات الأجنبية. لكن النتيجة ظهرت عام 2008 عندما أعلنت معظم تلك الشركات إفلاسها وفُرِضَت عليها إعادة هيكلة. بالمقابل شهدت الشركات اليابانية على سبيل المثال نجاحات عجزت عنها نظيرتها الأميركية. أنت تستطيع أن تحمي لفترةٍ لكن الحماية الطويلة تؤدّي إلى الاسترخاء والخروج من المُنافسة وفُقدان الإبداع.
التحوّلات الخطيرة والمأزق الأميركي
يبدو العالم كأنه يقف عاجزاً أمام سطوة أميركا وعقوباتها بما فيها الصين. العقوبات ليست سهلة وما يحدث في إيران وفنزويلا وروسيا اليوم دليل على ذلك. الهيئات البديلة مثل شنغهاي وبريكس وما يتفرَّع منهما مثل البنك الآسيوي للبنى التحتية ما زالت الشكوك تحوم حول فُرَص نجاحها. هناك مَن يعتبر في هذا السياق أن النظام الاقتصادي الذي قام إثر الحرب العالمية الثانية لم يستنفد ولم يأت مَن ينافسه حقيقة.
في ظلّ ما سبق أليس من المُبالغة الاستنتاج أن الولايات المتحدة باتت مُهدّدة؟ هل يمكن الاستهانة بالأوراق التي تمتلكها وبكل أدواتها المالية الاقتصادية مقابل الصين ودول العالم؟
رأيي أن المنافسة قائمة وموجودة في العالم. اقتصاد الصين قوي وهي ماضية في مشاريعها. أما بخصوص العقوبات فعندما تفرضها على ملياري شخص في العالم فهذا ليس عامل قوّة للولايات المتحدة. هذا عامل ضعف على المدَيين القصير والطويل.
قوّة واشنطن أن تتّفق مع العالم لا أن تهدِّد بعزل ثلثه عن النظام الاقتصادي لأن من شأن ذلك أن يُسرِّع ببناء المنظومة الاقتصادية العالمية. إذا كان ظهور هذه المنظومة يحتاج إلى 20 عاماً، فإنه مع السياسة المُتَّبعة اليوم في أميركا ربما لا يحتاج إلى أكثر من 10 سنوات خصوصاً أن حلفاء أميركا التقليديين لم يعودوا مُعارضين لذلك.
صحيح أن الأوروبيين لن يتخلّوا عن أميركا لكنّ في حال حصول تغيّرات لن يبقوا معها إلى الأبد. الأميركي اليوم في ورطةٍ إذا لم يُعدّل من سياسته التي يعمل ترامب على هَدْيها. ترامب يستعدي أكثر مما يحصل على أصدقاء في العالم. في مكانٍ ما هناك عمى بالقراءة. سياسة البطش سوف تقود ملياري مُتضرّر في العالم إلى خلق أسواقٍ خاصةٍ بينهم بديلاً عن السيطرة الأميركية. ربما يتطلّب ذلك أكثر من عقدٍ لكن لا يمكن استبعاده نظرياً.
لا ننسى أن دولاً قوية كانت في الماضي لديها هيمنة مُطلَقة وبدأت اليوم تخسر وجودها. كيف كانت بريطانيا قبل 100 عام وأين أصبحت اليوم؟ بريطانيا العظمى التي حكمت العالم بالجنيه الاسترليني لم تنته وما زالت دولة قوية لكنّ رئيسة وزرائها تيريزا ماي تستجدي اليوم الأوروبيين حول قضية بريكست.
ستبقى أمريكا دولة قوية على مستوى العالم لكن ليس بالضرورة دولة مُهيمِنة. عندما يصبح مُنافسها قوياً بوجود منظومةٍ ماليةٍ جديدةٍ سيبدأ العالم بالنظر إلى خياراتٍ أخرى.