المشهد اليمني الأول/

 

بعد أيام قليلة ستدخل الحرب الدائرة باليمن منذ أذار مارس 2015م عامها الخامس دون أن يلُـوح بالأفق نورٌ واضح يشير إلى  نهاية قريبة لها وخاتمة لمآسيها برغم الجهود الأممية التي تبذل لوقفها بعد أن وصلَ الوضع الإنساني  مرحلة مريعة من السوء والتدهور وبرغم اقتناع معظم القوى المحلية والاقليمية والدولية المنخرطة بها باستحالة الحسم العسكري الشامل…

 

 

فثمة جهات وشخصيات متنفذة ومهيمنة على دوائر صنع القرار داخل  القوى الدولية والمحلية تستميت تحت نزعة أنانية المكاسب المالية والسياسية والفكرية على إبقاء هذه الحرب أطول فترة ممكنة وتجتهد بلا هوادة لكبح كل المحاولات الدولية الرامية لوقفها…

 

 

فالسلطة اليمنية المعترف بها دولياً والمسماة بـــالشرعية أضحت بقبضة جهات نفعية طفيلية داخليها تتغذى على هكذا وضع غير طبيعي تطــغى فيه صوت البندقية على كل الأصوات  وتغييب  كل مؤسسات الدولية وبالذات المؤسسات الرقابية التي تجد  ” هذه الجهات” بغياب هذه المؤسسات وشل فاعليتها فرصة سانحة لمزيداً من الكسب والنهب المادي والمالي وتُــربة خصبة للتغلغل بأعماق الجهاز الإداري الحكومي – أو بالأصح ما تبقى منه -وانتزاع قرارات رئاسية وحكومية  للتمكين بالمواقع والمناصب الحكومية بما فيها السلك الدبلوماسي والظفر بأكبر قدر من صفقات وعقود الاحتيال المالي والنفطي والمضاربة بأسعار العملات واسعار المحروقات وتجارة السلاح  وإبرام الصفقات التجارية المختلفة بعد أن وصل منسوب الفساد الإداري درجة عالية من التوحش والفوضى والمحسوبية وبالتالي فلا غرو أن تستميت هذه الجهات على مسارب تمويلها وتقاتل بكل اسلحتها العسكرية والإدارية لضمان تفقد هذه المناهل وتتخندق بشراسة في سبيل تقويض أي جهد لوقف تدفق النهر الكبير الذي يمول هذه المسارب و الجداول ونقصد بذلك ” الحرب”.

 

 

وبالطرف الأخرى لهذه الحرب: ” جبهة الحركة الحوثية وقوى المؤتمر الشعبي العام  في صنعاء” تقف مراكز قوى ونفوذ لا بأس بقوتها وتأثير ونفوذها في السعي الى إطالة هذه الحرب لدواعٍ مالية ومكاسب شخصية وأن لم تكن بذات الضخامة وبذات الهوس المالي والكسب المادي ولا بذات النفوذ على دائرة صنع القرار الذي نجده بجبهة الشرعية، فهذه المراكز أقصد مراكز قوى المتغلغلة داخل قوى السلطة الحاكمة  بصنعاء  تنطلق بقناعتها لإطالة الحرب من فكرة عسكرية سياسية أكثر منها مالية وربحية شخصية فهي ترى باستمرار  الحرب فرصة لإغراق السعودية والإمارات بالمستنقع اليمني العميق لاستنزاف قدراتهما المالية والاقتصادية والاخلاقية مستفيدة هذه القوى من حالة السخط الدولي الغاضب من ضحايا الطيران وتوريطا لسمعة السعودية الحقوقية والإنسانية والدينية أمام المجتمع الدولي وأمام الشعوب الإسلامية خصوصاً وأن المملكة تحرص على أن تقدم نفسها رائدة الاسلام وقائدة الأمة الاسلامية والمنافحة على المسلمين بحكم رمزيتها الدينية كأرض للحرمين الشريفين: “مكة والمدنية”.

 

 

  كما مثّــلتْ هذه الحرب بالنسبة لكثير من الدول الكبرى سوقاً مزدهرة للبيع السلاح والعتاد وما شابه ذلك من المبيعات ذات الطابع العسكري وكذا المدني، برغم ما تعلنه عن قلقها عن تردي الوضع الإنساني ومن اتساع قُــطر دائرة انتشار الجماعات المتطرفة وتسرب الأسلحة الغربية الى يد هذه الجماعات وبرغم ما تعلنه بعض هذه الدول من صدمتها من التقارير الحقوقية  للحالة المعيشية والصحية والحقوقية وتفاقم حالة المجاعة وتفشي الأمراض وبرغم  دعوات هذه الدول لكل أطراف الصراع للحوار والمفاوضات والاحتكام للحل السياسي وتأكيداتها المتلاحقة عن استحالة الحل العسكري لهذه الأزمة إلّا أن جهود حقيقة لوقف هذه الحرب لم نرَ لها أي ترجمة على الأرض، وهذا يعني بالضرورة أن الخطاب المعلن  لوقف الحرب لم يكن أكثر من ذر للرماد على عيون المنظمات الحقوقية وإسقاط واجب شكلي متعارضا مع  ما تفرضه المصالح الغربية والأمريكية، وخير دليل على ما نقوله هنا هو رفض الإدارة الأمريكية لجهود مجلسَــيّ النواب والشيوخ داخل الكونجرس لوقف الحرب واستعداد الرئيس ترامب استخدام حق النقض بوجه أي قرار للكونجرس -كما فعل قبل يومين حين نقض قرار الكونجرس بإنهاء حالة الطوارئ بشأن الحدود مع المكسيك – بعكس ما تعلنه الإدارة الأمريكية عن رغبتها لوقف هذه الحرب  ودعواتها لأطراف الصراع بالشروع بتسوية سياسية فهذا التناقض بين هذه المؤسسات الأمريكية يشير قطعا الى حالة الانفصام بين الخطاب المُعلن وبين ما يطبق على الواقع كما يشير أيضاً الى أن المصالح  الاقتصادية الأمريكية وأمن اسرائيل فوق كل اعتبارات بما فيها الاعتبارات الانسانية والأخلاقية والقيم والمبادئ التي تتفاخر بها أمريكا دوماً.

 

 ماذا كسبت أطرف الصراع الداخلية والخارجية وماذا خسرت بعد أربعة أعوم من الحرب:

 

   فالداخل اليمني وحتى هذه اللحظة التي تدلف فيها هذه الحرب صوب سنة خامسة قتال أضحى الوضع على كل الصُــعد في حالة بائسة من السوء والخسران- إذا ما استثنينا تلك الفئات النفعية الطفيلية التي تتكسب وتقتات كثيرا على جثة اليمن الممزقة -.. ففي الشمال أصبح الوضع السياسي أكثر قتامة  بعد أن وصل حال كل القوى السياسية  الى درجة فظيعة من التشظي  داخل كياناتها وصارتْ علاقاتها مع الآخر بحالة غير مسبوقة من العداوات والضغائن فضلاً عن علاقتها المضطربة بالمحيط الإقليمي..

 

 

وعلى الصعيد الاجتماعي فليس الحال أفضل من غيره من المجالات والصُــعد الأخرى بعد أن ضربَ داء العصبية  صميم المجتمع، وكشّــرتْ الطائفية الموجهة عن بعُـــد بأنيابها ومخالبها بوجه الجميع، هذا علاوة على الخطر الماحق الذي يهدد النسيج الاجتماعي المتهتك أصلاً بسبب إقحام القبيلة كعنصر حرب وأداة قتالية بالأشهر القليلة الماضية.. أمّــا على الصعيد الاقتصادي والمعيشية فحدث عنهما ولا حرج شمالاً وجنوباً.

 

 

 ومع ذلك  فأن كان هناك قوى سياسية وحزبية – على قلتها – قد استفادت من هذه الحرب  فهي حزب الإصلاح الذي أستطاع بذكائه السياسي الفريد وديماغوجية خطابه السياسي المخاتل أن يحافظ على قدراته المالية والقتالية والعسكرية والجماهرية الى حد كبير بل واستطاع أن يسمّـــن هذه الطاقات ويعـــزّز  من حجمها وقدراتها مستفيدا من حالة استحواذه على مؤسسات الشرعية وقراراتها لمصلحة حزبية بحتة، ومستثمرا حالة الانقسام العميق داخل البيت الخليجي ..

 

 

برغم ما يتعرض له هذا الحزب من هجمة إعلامية داخلية وخليجية تتهمه صراحة بالخديعة والتخاذل ونزوعه الإخواني على حساب الوطن وعلى حساب حلفاءه بالتحالف إلّا أنه يدرك أن هذه الجهات بما فيها التحالف ما تزال بحاجة له بالوقت الراهن في ظل تعثر خلق قوة موازية لحركة الحوثية بالشمال بعد أن خاب الرهان الخليجي على المؤتمر الشعبي ورئيسه الراحل صالح, وبرغم حالة فقدان الثقة المتفاقمة بينه أي الإصلاح وبين الجميع داخليا وخارجيا دون استثناء خصوصا بعد أن توجس خيفة مما يقوله أنها أطماع إماراتية باليمن واستهدافا له كحزب إسلامي وبرغم الحقد الدفين الذي تضمره له المملكة السعودية على خلفية خصومتها  الفكرية للحركة الإخوانية الدولية .

 

 مكاسب في الجنوب …

 

في الجنوب ثمة مكسب سياسي وعسكري ظفر به الجنوب بهذه الحرب مستفيدا من الحالة الثورية الجنوبية المتراكمة منذ سنوات بوجه قوى ما بعد حرب 94م  وهي الحالة التي تمثلت بالثورة الجنوبية” الحراك الجنوبي” الذي شكل الأرضية الصلبة للعزيمة العسكرية التي أبداها المقاتل الجنوبي بهذه الحرب ” 2015م., وهو دحر القوى العسكرية الشمالية الطاغية عن الجغرافيا الجنوبية وتحجيم النفوذ السياسي للقوى الشمالية على الرقعة الجغرافية الجنوبية ..

 

 

ولكن يظل هذا المكسب مجرد نصراً عسكريا وسياسيا مؤقتا إنّ لم يترجم  لمشروع سياسي جنوبي  استراتيجي وهو ما يبدو بعيد المنال -على الأقل حتى اليوم – فكل القوى اليمنية وعلى رأسها قوى وأحزاب الشرعية والدائرة الجنوبية النفعية المحيطة بالرئيس هادي تعمل بدأب على سحب بساط النصر العسكري من تحت اقدام المشروع الجنوبي  يشد عضد هذه القوى الموقف الخليجي والسعودي بالذات المتحمس لتمرير مشروع الدولة اليمنية الاتحادية من ستة اقاليم الذي يرفضه قطاع واسع من النُخب الجنوبية داخل الثورة الجنوبية ومجالسها الثورية وداخل المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يشكل أكثر حضورا بالساحة، كما تصر المملكة وبتأييد دولي لا بأس به على أن تستند أية تسوية سياسية يمنية على ما بات يُــعرف بمرجعيات  حل الأزمة اليمن  الثلاث: المبادرة الخليجية -مخرجات حوار صنعاء – قرارات مجلس الأمن بشأن اليمن- وهي المخرجات التي لا ترفض فقط حل عادل للقضية الجنوبية تستند على الإرادة الشعبية الجنوبية بل ترفض من أساسه الاعتراف بوجود قضية سياسية أسمها القضية الجنوبية وبالتالي فما حققه الجنوبيون بهذه الحرب مهددا بالتلاشي  إن لم تغير بوصلة المصلحة الخليجية مؤشرها جنوباً.

 

 

المكاسب والخسائر  السعودية والإماراتية من هذه الحرب:

 

 

مخطئ من  يعتقد أن السعودية والإمارات لم  يحققا مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية من هذه الحرب/ فلو استثنينا الهدف الذي أعلنه التحالف من هذه الحرب وهو إعادة السلطة الموالية له المعروفة بـــ” الشرعية” الى سدة الحكم بصنعاء والإجهاز الكُــلي على حركة الحوثيين وقوات صالح  فأن ثمة أهداف كثيرة كسبتها الرياض و أبوظبي من هذه الحرب معظمها أهداف غير مشروعة بدليل أنها غير معلنة منهما تحققت على حساب المصلحة اليمنية – شمالاً وجنوبياً – وعلى حساب السيادة والجغرافيا والأرض والثروة والمنافذ البرية والبحرية ، نوجزها بعيداً عن التفاصيل بما يلي:

 

 

– تحطيم  الآلة العسكرية اليمنية وأنهاك الاقتصاد اليمني بل ومسحه من على الوجود وإدخال اليمن بكل قواه المختلفة في دوامة النزاعات الداخلية شمالية شمالية، وشمالية جنوبية وجنوبية جنوبية واشعال جذوة النزعة الطائفية والقبلية ليتسنى لهما أي للرياض وأبوظبي بنهاية المطاف من التحكم باليمن أرضا وثروة وانسانا وموقعا جغرافيا والإمساك بتلابيب القرار السياسي وبالإرادة الوطنية اليمنية وإبعاد تشكل دولة قوية على البوابة السعودية على غرار الجبهة الشمالية لها مع العراق/ فما زال الكابوس العراقي عالقاً بالمخيلة السعودية وما الوجود العسكري الخليجي المتنامي في محافظات حضرموت والمهرة و جزيرة سقطرة بالمحيط الهندي وهي المحافظات التي لا علاقة لها إطلاقاً بأرض المعركة وبساحة الحرب أو بحكاية اسقاط صنعاء وإعادة الشرعية الى  هناك وهذا الأمر لم يعد يردده خصوم التحالف المعروفين” الحوثيين ” بل بات يفصح عنه شركاء التحالف أنفسهم.

 

 

 – وضع اللمسات ما قبل الأخيرة لفتح منفذ نفطي سعودي في محافظة المهرة” ميناء نشطون الحيوي” كإطلالة سعودية – لطالما حلمتْ بها الرياض منذ عقود- على بحر العرب والمحيط الهندي لاختصار المسافة بين منابع الانتاج ومراكز التصدير وصولاً الى الأسواق العالمية ومتجاوزة  بذلك حاجتها لمضيق هُـــرمز.

 

 

– ترسيخ الحضور العسكرية والسياسي السعودية والإمارتي في منطقة باب المندب والبحر الأحمر والقرن الافريقي وهي المنطقة التي يستعر بها التنافس الإقليمي بضراوة منذ سنوات بين كل من السعودية وقطر وتركيا والإمارات وإيران ومن خلف هؤلاء كلهم  أمريكا ودول كبرى أخرى كالصين التي توغلت بشرق القارة الأفريقية بالسنوات الماضية فهذا التنافس بطبيعته اقتصادي “صراع موانئ وممرات”…..

 

 

زادت وستزيد الرغبة الخليجية والإماراتية على الوجه الخصوص بترسيخ الوجود العسكرية والنفوذ السياسي باليمن وبالذات في الجنوب والحُديدة  وعلى طول الشريط الساحلي عموما وبالجزر بعد أن فقدتْ أبوظبي مؤخرا أهم مواقعها الاقتصادية  بالقرن الأفريقي عبر أخطبوطها  الاستثماري العملاق” شركة موانئ دبي” حين اقدمت كل من جمهوريَتيّ جيبوتي والصومال على الغاء اتفاقيتَــيّ ادارة مينائَــيّ جيبوتي وبربرة  بشمال الصومال بدعم وتشجيع  قطري تركي.

 

قراءة : صلاح السقلدي