المشهد اليمني الأول/
تذرّعت الحكومة البريطانية بالعبارة التالية لوضع حزب الله على لائحة الإرهاب “يشكّل تأثيراً متزايداً على زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط” سيقتْ إفتراضات متعدّدة لتفسير القرار. إنه موجّه ضد حزب العمال وزعيمه اليساري جيمي كوربن. يُراد منه الافتراق عن السياسة الخارجية الأوروبية تناسباً مع “البريكسيت”. يستجيب لرغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ولصفقة القرن. يعاقب الحزب على تدخّله في سوريا وفلسطين واليمن والعراق..الخ.
ينطوي القرار البريطاني الذي اتّخذه وزير الداخلية على تقدير صريح بأن الحزب اللبناني بات لاعباً إقليمياً مؤثراً وأن لندن لا تريد الإعتراف بتأثيره والتفاوض معه على الأدوار التي يلعبها بل ترغب باستبعاده وقهره بعد فرض الحصار عليه بواسطة الحجّة الإرهابية.
لم يبذل وزير الداخلية البريطاني الذي قيل أنه من أصول إسلامية وكأن ذلك يضفي مصداقية على قراره الشنيع لم يبذل جهداً بسيطاً للتأكّد من الحِجَج التي تبرّر مثل هذا القرار العدواني. ذلك أن حزب الله كان قبل أيام من صدور هذا القرار قد اتّخذ إجراء تأديبياً بحق نواف الموسوي أحد ممثليه في المجلس النيابي اللبناني قضى بتجميد نشاطه السياسي لأنه رفع الصوت عالياً بوجه نواب اليمين العنصري المتطرّف في حزب الكتائب والقوات اللبنانية خلال سِجال حول وصول الرئيس الأسبق بشير الجميل إلى سدّة الرئاسة “على ظهر دبّابة إسرائيلية” عام 1982.
ولم يبذل وزير الداخلية البريطاني جهداً يُذكَر، للتأكّد من مُطابقة قراره مع التعريف الغربي عموماً والبريطاني خصوصاً للإرهاب. النصّ يقول بما معناه “يُعتَبرُ إرهابياً كل مَن يستخدم السلاح لقتل أو لترويع المدنيين من أجل حملهم على الإستسلام لمشيئته”.. نحن نعرف أن الحزب يتعرّض في مناطق سيطرته لدعوات علنية تدعو أحياناً لتصفية وجوده بالسلاح ويتعرّض في لبنان عموماً وفي الشرق الأوسط لحملات تحريض تدعو إسرائيل لمحوه من الوجود من دون أن يرهب الداعين أو يضع حداً بواسطة القوّة لتحريضهم. ونعرف أيضاً أن تل أبيب اغتالت عدداً من قادة الحزب في عمليات إرهابية واضحة من دون أن يردّ الحزب عليها بعمليات اغتيال مُشابهة في الخارج. ويمارس الحزب نشاطه السياسي والنقابي والمدني في لبنان بالوسائل المدنية التي يُتيحها القانون وبالتالي فهو يخضع كغيره من القوى لسلطة القانون عندما يتجاوز أو يرتكب أخطاء.
يجدر التذكير بأن الحزب فاز بالإنتخابات في بلدية بعلبك بفارق ضئيل من الأصوات ولو كان الحزب “إرهابياً” كما يقول وزير داخلية بريطانيا لما دخل في اللعبة الإنتخابية أصلاً وإن دخلها كإرهابي لن يتجرّأ أحدٌ على منافسته خوفاً وترويعاً ..
ثمة مَن ينسب لحزب الله أعمالاً إرهابية وقعت في الثمانينات، لكن هذه الأعمال ليست في أساس القرار البريطاني كما يتّضح من حيثياته، وإن صحّت، فإنها مشمولة بالعفو الذي صدر بعد إتفاق الطائف عام 1989عن كل الارتكابات والجرائم التي وقعت خلال الحرب الأهلية.
يسمح ما سبق بتصنيف القرار البريطاني في خانة العداء ضد الحزب لكونه خصماً ولاعباً إقليمياً وبالتالي لا شرعية للقرار في القانون الدولي، لكن ما الذي يحمل بريطانيا لرفع حال العداء مع الحزب إلى هذا المدى الشاهِق؟
قد تكون الأسباب الواردة أعلاه قد دخلت في أساس القرار لكنني أرجّح أن يكون اليمن هو الأكثر أهمية بينها وذلك للإعتبارات التالية:
أولاً: لأن الحزب يلعب دوراً كبيراً في الدفاع عن اليمن عبّر عنه السيّد حسن نصرالله مراراً بالقول إن أهم خطاب ألقاه في حياته هو خطاب الدفاع عن اليمن. واعتبر أن سقوط صنعاء هو كسقوط دمشق وبيروت وبغداد بالنسبة لمحور المقاومة. وتنسب المهارات القتالية لأنصار الله بجزء منها على الأقل لمستشارين في حزب الله. ويبقى أن الزخم الإعلامي اليمني الأساسي ينطلق من مناطق نفوذ الحزب وربما بمساعدات تقنية ومالية ومنهجية من الحزب.
ثانياً: إن المعركة الدائرة في اليمن تتمحور في جزئها الأهم حول الساحل الغربي وباب المندب وإن تمّت السيطرة لأنصار الله على هذه المنطقة مباشرة أو بالنيران عن بُعد، فإن حلفاء بريطانيا في الخليج ناهيك عن إسرائيل، سيعانون في تصدير النفط والغاز ومن الملاحة تحت إشراف أصدقاء الحزب ومحور المقاومة ومن البديهي في حال الحرب مع إسرائيل أن يفقد ميناء إيلات أهميته الاستراتيجية بالنسبة لإسرائيل بل يمكن القول من دون تردّد أن باب المندب هو بالنسبة للدولة العبرية شريان حياة أساسي أو سبب من أسباب موت حتمي.
ثالثاً: تعمل بريطانيا عبر الإمارات والمملكة السعودية على العودة إلى جنوب اليمن حيث سيطرت لقرن وثلث القرن قبل أن تقتلعها مقاومة يمنية مظفّرة بقيادة الحزب الاشتراكي. الخطة البريطانية لجنوب اليمن تنصّ على إنشاء نظام من 20 سلطنة ومشيخه يشبه نظام دولة الإمارات. استطاع الحزب الاشتراكي اليمني أن يدحر هذا الحلم وأن يبنى دولة مركزية وأن ينتقل منها إلى الوحدة اليمنية عام 1990.
يعود البريطانيون اليوم إلى جنوب اليمن عبر مبعوث دولي ولِدَ في عدن الكولونيالية وليس بعيداً عن اللعبة البريطانية التي تدور فيها بواسطة الأمم المتحدة ويشجّعون الرجوع إلى تلك المكوّنات المحلية التي تتّخذ شكلَ جيش البادية والقوات الحضرمية وقوات النخبة الشبوانية والضالعية واليافعية والحزام الأمني وغيرها. هذه التشكيلات التي تستقرّ في محميات مستقلّة عملياً يقاتل بعضها القوات اليمنية المشتركة “الجيش واللجان الشعبية” في سياق تشكيل مستقبل جنوب اليمن عبر ترسيخ الأمر الواقع مقابل إنقاذ شمال اليمن من الموت جوعاً. هذا التوجّه يستقرّ تدريجاً على بنى من الصعب تفكيكها إلا عبر اجتياح خارجي سيكون مُتعذّراً مع وجود حماية بريطانية وأطلسية و”شرعية دولية” مزعومة.
لا يمكن لإيران أن تعترض هذا التوجّه على الأرض اليمنية بخلاف حزب الله وهو عربي وجزء من محور يعتبر أنصار الله أحد أركانه ناهيك عن الرعاية التي وفّرها الحزب سابقاً لقوى جنوبية بقيادة نائب الرئيس الأسبق علي سالم البيض واليوم لأحد قادة الحراك الجنوبي حسن باعوم.
الثابت أن تفكيك الجنوب اليمني يمكن أن يسمح بتغيير جيواستراتيجي من الدرجة الأولى في المنطقة إذ يمكن تطبيق مشروع مدينتي “النور” التي تحدّث عنها أنور عشقي مع الصهاينة عبر جسر بحري يجمع عدن بجيبوتي وبالتالي إتاحة إشراف أميركي وبريطاني حصري على باب المندب ويمكن للسعودية والإمارات إنشاء ممرات نفطية مباشرة عبر حضرموت إلى المحيط الهندي وبالتالي خفض القيمة الاستراتيجية لباب المندب ولمضيق هرمز كمعبرين أساسيين للنفط الخليجي.
إذن يلعب حزب الله في هذه المنطقة دوراً في غاية الأهمية إذ ينافس قوى عُظمى فضلاً عن إسرائيل في رسم مصير اليمن ومحيطه لمئة عام مقبلة.. لهذا السبب وربما له وحده ، قرّرت بريطانيا أن تُسمّي حزب الله منظمة إرهابية وتأتي الأسباب الأخرى من قبيل تحصيل الحاصل.
قراءة : فيصل جلول – باحث لبناني مقيم في فرنسا