المشهد اليمني الأول/

 

رحل، يوم الإثنين، “هدهد” الإعلام اليمني عبدالرحمن مطهر أو “بابا عبد الرحمن مطهر” وهو الاسم الأقرب لقلب هذا الصوت الإذاعي الذي نجح في إيصال نبرته للبيوت اليمنية وبقي فيها حتى على الرغم من اعتزاله العمل الإعلامي.

 

يمكن النظر لمسألة البقاء هنا من خلال الأثر الذي صنعه مطهر وأوصلته إلى درجة وضعته في مصاف التراث الشعبي المتناقل من جيل إلى جيل. لا غرابة إذاً أن نجد صفحات التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية وقد انتشر عليها خبر رحيل بابا عبد الرحمن بعد لحظات من وفاته فجر البارحة في منزله في صنعاء. أغلب هؤلاء لم يعاصروا المرحلة التي كان فيها صوت مطهر متسيداً للأثير اليمني عبر إذاعة صنعاء، لكن ولابد قد وصلتهم على الأقل من عائلاتهم بعض العبارات من برنامجه الاجتماعي الأشهر في تلك الإذاعة “مسعد ومسعدة” أو حتى الأنشودة الافتتاحية لهذا البرنامج اليومي الصباحي “البيت المره، والحَب الذره/ قولوا لمسعده تقع مِدّبره/ تربّي العيال والرب تشكره/ومسعد تسعده تجبر بخاطره /البيت المره والحَب الذره”.

 

والمعنى من هذه المقدمة تأتي عبارة عن مُخاطبة لربّة المنزل واسمها مسعدة زوجة مسعد، أن تكون حكيمة في تدبير أمور المنزل وأن تعتني بأولادها بحسب القواعد التي ستأتي في سياق كل حلقة يومية من البرنامج كما وعليها أن تعمل على إدخال السعادة في قلب زوجها مسعد.

 

قد ينبغي هنا الانتباه لمسألة مخاطبة هذا البرنامج بهذه اللغة البسيطة إنما أتت كونه يُخاطب الأُسر البسيطة المتواجدة في مناطق الريف اليمنية ولهذا هو يتحدث بلغتها. نقطة لها أن تجاوب على أصوات عديدة كانت تعتبر هذا البرنامج إنما يأتي من باب فرض السيطرة الذكورية على المرأة اليمنية ووضعها في أقفاص تسمح بطول فترة وقوعها تحت إمرة الرجل. لكن تلك الأصوات تجاهلت منطق الزمن الذي طلع فيه هذا البرنامج حين كان غالبية رجال الأرياف يهاجرون قراهم للعمل إما في المدن الرئيسية لليمن أو للاغتراب الخارجي في المملكة العربية السعودية.

 

يعني أن النساء كن أصحاب الشأن في بيوتهن وعليهن تقع مسائل كل شيء من تصريف أمور المنزل وأشغال الزراعة كما وتربية الأولاد وكل هذا في غياب الرجل. هذه الطبقة المعينة من السيدات كانت بحاجة لهذا الصوت الإذاعي البسيط والأفكار التي كان يقولها عبر حواره مع مسعدة (كانت تقدمه المذيعة اليمنية القديرة حبيبة محمّد) ومن خلال ذلك الحوار تجد قواعد الحياة الاجتماعية طريقاً سهلاً تصل عبره إلى تلك السيدات الأُميّات. من فرادة أي برنامج اجتماعي إذاعي أن ينجح في الكلام بنفس مستوى فهم الطبقة الاجتماعية المُستهدفة وقد أتقن بابا عبد الرحمن مطهر فعل ذلك.

 

لم يكن غريباً والحال هذه أن تلتقط منظمة اليونيسف هذا البرنامج كي تدعمه وتقف إلى جواره وهو البرنامج الذي يسير على نفس الأفكار التي تهدف هذه المنظمة الدولية لإيصاله، وليس من أثير الراديو أسهل وأبسط طريقة من أجل إتمام الوصول إلى كل بيت مع ملاحظة أن غالبية البيوت اليمنية الريفية كانت محرومة من التيّار الكهربائي وعليه كان جهاز الراديو هو أسهل وسيلة تواصل مع تلك الطبقات الاجتماعية النائية.

 

وفي السياق نفسه، هذا السياق العائلي وأموره، لم يكن بابا عبد الرحمن مطهر، الذي درس الثانوية في العاصمة المصرية القاهرة وعاد للعمل في إذاعة صنعاء من الأيام الأولى لقيام الثورة اليمنية العام 1962، بعيداً عن أحوال الطفولة إضافة لبرنامج “مسعد ومسعدة”. لقد جاءت هذه التسمية لفرط ما كان منشغلاً بأمور الطفل اليمني. برامج عديدة وصلت لهذه المرحلة العُمرية وأهلته كي ينال جائزة التمّيز في خدمة الطفولة العربية العام 1986.

 

إضافةً إلى ذلك، أصدر مطهر مجلة مخصصة للأطفال سماها “الهدهد” وكانت الأولى في تاريخ الصحافة اليمنية لكنها لم تقدر على الاستمرار بسبب غياب الدعم الرسمي أو الأهلي اللازم، لم تكن الجهات الثقافية أو الإعلامية اليمنية الرسمية في ذلك الوقت مهتمّة لمسألة إصدار مجلة مخصصة للأطفال، لقد سبق وعي عبد الرحمن مطهر تلك الجهات من هذه الناحية. كما كان يسبقها دائماً حتّى في مسألة اكتشاف المواهب الإذاعية من المدارس الحكومية.

 

يحكي الصحافي اليمني البارز عبد الرحمن بجّاش وقد كان مديراً لتحرير جريدة “الثورة” الرسمية الأولى عن قصص كثيرة بشأن قدرة عبد الرحمن مطهر في مسألة اكتشاف الأصوات الإذاعية وتقديمها للناس وعلى وجه الخصوص الأصوات النسائية. وقد ذكر مثالاً في واحدة من أعمدة اليومية عن حالة رؤوفة حسن، كيف أخذها مطهر من المدرسة ودفعها لتكون في مواجهة ميكرفون الإذاعة. ودارت الأيام لتصير حسن واحدة من رموز الإعلام اليمني بل وتواصل دراستها الأكاديمية وتحصل على درجة الدكتوراة وتذهب لتأسيس أول كلّية إعلام في تاريخ جامعة صنعاء.

 

من هنا يمكن الرد مجدداً على مسألة الذكورية التي قالت بعض الأصوات بأن الراحل عبد الرحمن مطهر كان يريد تكريسها عبر برنامجه “مسعد ومسعدة”. لقد كان ببساطة ماهراً في طريقة تخاطبه مع مختلف الطبقات الاجتماعية متحدّثاً بلسانها غير مستعجل القفز على الظروف الثقافية التي كانت مسيطرة على المجتمع اليمني.

 

(العربي الجديد)