المشهد اليمني الأول/

 

يظهر استطلاع ميداني لحقيقة الحديث الأممي عن نهب منظّم للمساعدات في مناطق سيطرة «أنصار الله» سببين رئيسين لتلك الظاهرة: اعتماد المنظمة الدولية على شركاء غير نزيهين في عملياتها، واستيرادها مواد فاسدة أو ذات جودة متدنية أو توزيعها إياها على فقراء ومعدومين لا يعرفون ماذا يفعلون بها. حقيقتان عاد «برنامج الغذاء العالمي» ليقرّ بهما، بعدما أثار زوبعة حاول السعوديون والإماراتيون استغلالها في تحوير هوية مُجوِّع اليمنيين.

 

أثار برنامج الغذاء العالمي، التابع للأمم المتحدة، خلال الفترة القصيرة الماضية، جدلاً واسعاً باتهامه سلطات صنعاء بـ«سرقة الغذاء من أفواه الجوعى»، وتهديده بوقف تحويل المساعدات الإنسانية إلى المحافظات الخاضغة لحكومة الإنقاذ. استند المدير التنفيذي لـ«البرنامج»، ديفيد بيزلي، في اتهاماته، إلى مسح ميداني أظهر تلاعباً في عملية توزيع المساعدات.

 

وهو تلاعب موجود بالفعل كانت سلطات صنعاء قد طالبت بالتحقيق في شأنه، لكن طلبها قوبل بالرفض قبل صدور تصريحات بيزلي، والتي استُغلّت من قِبَل «التحالف» والحكومة الموالية له للتصويب على «أنصار الله»، والعزف مجدداً على نغمة تحويل مسار الإغاثة من الشمال إلى الجنوب.

 

وكانت السعودية قد وجّهت ــــ بحسب مصادر دبلوماسية ــــ حكومة الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي، بالعمل على نقل ذلك المسار من ميناء الحديدة إلى ميناء عدن، إلا أن منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية جون لوكوك، رفض تلك المساعي، مشدداً على أن إدخال المساعدات عبر ميناء الحديدة أسهل منه عن طريق ميناء عدن، الذي يعاني ازدحاماً شديداً وإجراءات معرقِلة.

 

أكثر من ذلك، وضع محافظ البنك المركزي، المُعيّن من قِبَل هادي، محمد زمام، أمام فريق خبراء صندوق النقد الدولي، مسألة تحويل مسار المساعدات كشرط أساسي لصرف رواتب موظفي الدولة، وطالب الأمم المتحدة بأن تعتمد «مركزي عدن» كقناة لإمرار المعونات الغذائية والنقدية، حتى يتسنى له رفع احتياطاته من النقد الأجنبي. وقد تصاعدت هذه المطالب بعدما توقعت الأمم المتحدة وصول تمويل خطة الاستجابة الإنسانية الطارئة في اليمن للعام الجاري إلى أكثر من 4 مليارات دولار.

 

تفنيد الاتهامات

 

تحدث برنامج الغذاء العالمي عن تسليم مساعدات لغير مستحقيها، مِمَّن ينتحلون أسماء المستفيدين. في هذا الإطار، ووفقاً لمصادر محلية في صنعاء، تحدثت إلى «الأخبار»، فإن الأجهزة الأمنية باشرت بالتأكد من هوية المتحايلين وفق البصمات والكشوفات المزورة التي قُدّمت إليها، إلا أنها لم تستبعد أن تكون الأطراف المسؤولة عن التلاعب قد حصلت على بطاقات شخصية من إحدى المحافظات الخارجة عن سيطرة «أنصار الله»، بغرض استهداف مسار المساعدات، ودفع «برنامج الغذاء» إلى تحويله إلى عدن. وبحسب المصادر نفسها، فإن سلطات صنعاء أوقفت عدداً من المسؤولين على ذمة التحايل، وهي تحقّق معهم.

 

كذلك، اعتبر بيزلي وجود مساعدات معروضة في بعض متاجر صنعاء دليلاً على وجود عملية نهب منظم. خلال نزولنا الميداني إلى أسواق العاصمة، لاحظنا بالفعل وجود عدد من المحال التجارية في مناطق جغرافية متباعدة في شرقي صنعاء وجنوبيها، وخصوصاً بالقرب من الأحياء الفقيرة والمعدمة والكثيفة السكان، تعرض بيع مساعدات غذائية تحمل شعار «برنامج الغذاء» كالقمح والزيت.

 

وبعد استقصائنا أسباب ذلك، تبين أن العشرات من المستحقين من الفقراء والمعدمين يقومون بمقايضة تلك المساعدات، بحيث يبيعونها للتجار بأقلّ من قيمتها، مقابل الحصول على مواد غذائية أخرى كالأزر والسكر. كما أن تدنّى جودة مادة القمح الأحمر التي يوزّعها «برنامج الغذاء» عبر منظمات محلية شريكة، يجبر الكثير من المستحقين على بيعها وشراء قمح ذي جودة أعلى. وبحسب أحد المستفيدين من المساعدات، فإن «نوعية القمح رديئة، ويصعب استخدامها في إعداد الخبز». وقد سبق لسلطات المواصفات والمقاييس أن أوقفت أكثر من 40 ألف طن من القمح الفاسد الذي استورده «برنامج الغذاء» عبر تاجر محلي إلى ميناء الحديدة العام الماضي، وتمت إعادته إلى المصدر.

 

يضاف إلى ما تقدم، أن المنظمات المحلية الشريكة لـ«برنامج الغذاء» تقوم بتوزيع مساعدات طارئة على نازحي محافظة الحديدة الذين تصاعدت أعدادهم في صنعاء إلى عشرات الآلاف خلال الأشهر الماضية. وبالنظر إلى أن الكثير من أولئك النازحين فرّوا من منازلهم، تاركين خلفهم كل ما ثَقُل وزنه، ومكتفين بحمل احتياجاتهم الخفيفة، فهم لا يمتلكون أدوات لطهي الطعام، ولذلك يبيعون المساعدات ويشترون بثمنها طعاماً. ونتيجة لاستبعاد برنامج الغذاء العالمي أي دور للسلطات المحلية في عملية التوزيع، واعتماده حصراً على منظمات شريكة تعمل بمعزل عن الجهات الحكومية، فإن جزءاً من المساعدات يُصرف لغير مستحقيه، ويتسرّب بطبيعة الحال إلى السوق المحلي بصورة شهرية.

 

«ورقة سياسية»؟

 

قبل اتهام «برنامج الغذاء»، سلطات صنعاء، بالتلاعب بالمساعدات، كانت «الهيئة الوطنية لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية»، وهي هيئة تابعة لرئاسة الجمهورية ومعنية بتسهيل انسياب المساعدات بين المحافظات، قد أبرمت اتفاقاً مع «البرنامج» للقيام بإجراءات تصحيحية، شملت إقرار آلية جديدة للصرف، لكن «الهيئة» فوجئت باتهام «البرنامج» السلطات برفض القيام بتلك الإجراءات.

 

ووفقاً لمصدر من داخل «الهيئة»، تحدث إلى «الأخبار»، فإن الاتفاق نصّ على إعادة النظر في قوائم المستفيدين في المديريات كافة، عن طريق لجان مجتمعية يشكّلها البرنامج ويدرّبها، إضافة إلى إلزام الشريك المحلي المنفذ بالنزول الميداني للتأكد من صرف المساعدات لمستحقيها، ومن ثم التحقق من ذلك مرة ثانية. كما تم اختيار شركة عالمية متخصصة في الرقابة والتقويم كطرف ثالث لإجراء عملية تحقق ثالثة.

 

وقد طالبت «الهيئة» بأن يقوم البرنامج بمنح كل مستفيد بطاقة ذكية لتسلم المساعدات، على أن يتم تطبيق نظام البصمة المرتبط بها. وبحسب المصدر نفسه، فإن التأخير في إجراءات التصحيح جاء من «البرنامج»، علماً بأن «الهيئة» تلقّت عدداً من الشكاوى حول التلاعب بمستحقات الفقراء، وقد حاولت التأكد من القوائم، إلا أن «البرنامج» رفض ذلك الإجراء بدعوى سرية البيانات وحقوق المستهدفين، قبل أن يقوم بتسريب القوائم والشكاوى و«التعامل معها كورقة سياسية».

 

‏وكيل قطاع التنسيق‏ لدى ‏الهيئة الوطنية لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية في العاصمة صنعاء، فيصل مدهش، لا ينفي في تصريح إلى «الأخبار» وجود مخالفات في آلية توزيع المساعدات، لكنه يؤكد أن المسؤولين عن تلك المخالفات هم شخصيات ووجاهات «لا تنتمي إلى أنصار الله، وليس للحركة علاقة لا من قريب ولا من بعيد بها». ويعتبر مدهش أن «قرار مكتب رئاسة الجمهورية في صنعاء، والذي قضى بتشكيل لجنة في ادعاءات برنامج الأغذية العالمي، قطع الطريق على البرنامج ومن يدور في فلكه، في جعل تلك الادعاءات ذريعة لإيقاف المساعدات، وبالتالي إثارة المواطنين على السلطات في صنعاء».

 

وفي أعقاب تشكيل تلك اللجنة، سُجّل تراجع في موقف «برنامج الغذاء»، الذي رحّب في الرابع من كانون الثاني/ يناير الجاري بقرار «أنصار الله» إجراء تحقيق، مُقرّاً على لسان المتحدث باسمه إرفيه فيروسيل بأن «المنظمة المحلية التي لديها القدرة على توفير الإغاثة الغذائية لملايين المستفيدين، والتي تساعد البرنامج في الوقت الحالي على الوصول إلى نحو ثلاثة ملايين شخص، شاركت في هذا الاعتداء»، وأن «العديد من الأشخاص الذين يعانون من فقر مدقع يبيعون جزءاً من حصتهم التموينية لتلبية الاحتياجات الأخرى، مثل التعليم والأدوية والإيجار».

 

التلاعب «وارد»

 

تتولى السلطات المحلية في المحافظات الخاضعة لسيطرة «أنصار الله» مهمّة تسجيل المتضررين من العدوان والحصار، وفق معايير محددة، تبدأ بالأشد فقراً، ومن ثم الأسر التي لا يعولها إلا طفل أو كبير في السن أو امرأة. ولكن لا تشارك تلك السلطات في صرف المساعدات لمستحقيها، إذ يتم ذلك عبر شركاء محليين. من بين هؤلاء الشركاء مثلاً مشروع التغذية المدرسية والإغاثة الإنسانية الذي «يعمل في أكثر من 90 مديرية»، بحسب ما يفيد به نائب مديره العام يحيى الهادي في تصريح إلى «الأخبار».

 

لا ينفي الهادي وجود تلاعب في المساعدات، موضحاً أن «التلاعب وارد في ظلّ وجود أكثر من 2000 مركز إغاثي»، لكنه يشدد على أنه «بالتعاون المجتمعي نستطيع الحدّ من هذه الممارسات». يلفت إلى «(أننا) نعمل وفق آلية محددة لا نستطيع الخروج عنها»، تولي أولوية خاصة للنازحين الذين يتم تقديم المساعدات إليهم كحالات طارئة.

 

ويشير إلى أن «وحدة التغذية المدرسية ووحدة الطوارئ في المشروع تصرفان ما يقارب 350 ألف سلة شهرية في 12 محافظة، بما يطال 3 ملايين مستفيد»، مضيفاً أن «المشروع استهدف حتى اليوم 7 ملايين وخمسمئة يمني، منهم 5 ملايين في 12 محافظة، و2.5 مليون في ما تبقى من المحافظات، ورغم ذلك فإن حجم الاحتياج أكبر بكثير من حجم المساعدات الإنسانية».

 

(تقرير – رشيد الحداد)

مصدرالأخبار اللبنانية